السعوديون والجامعة العربية : مصر الأحق والأجدر بقيادة الأمة

السعوديون والجامعة العربية : مصر الأحق والأجدر بقيادة الأمة

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

 

 

 

منذ أن أشرقت شمس جامعة الدول العربية عام 1945، كانت القاهرة ــ ولا تزال ــ القلب النابض للأمة، وركيزة الاتزان في هندسة البيت العربي الكبير .

 

 لم يكن حضور مصر في قيادة الجامعة ترفاً سياسياً ولا محض امتياز جغرافي، بل كان ثمرة دور تاريخي متجذر في أعماق الكفاح العربي المشترك؛ دور صاغته تضحيات جسيمة وجهود متواصلة، قادت خلالها مصر معارك التحرر الوطني من المحيط إلى الخليج، وواجهت موجات الاستعمار والتقسيم، واحتضنت قضايا الأمة في أدق لحظاتها المصيرية.

 

في كل مفصل من مفاصل التاريخ العربي الحديث، كانت القاهرة تتقدم الصفوف، لا تكتفي بالشعارات بل تدفع أثمان الدفاع عن فلسطين واليمن والجزائر وكل قضايا العرب الكبرى من دماء أبنائها وقوت شعبها .

 

 ولهذا ترسخت قيادتها للجامعة العربية، لا بوصفها مركز ثقل سياسي فحسب، بل باعتبارها تجسيداً لمسؤولية قومية عميقة تحملتها مصر نيابة عن العرب جميعاً .

 

مقترح سعودي …

يفتح أبواب الخلاف

 

اليوم، مع تقديم أسم الدبلوماسي السعودي عادل الجبير كمرشح محتمل لتولي منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، تدخل الساحة العربية طوراً حساساً من النقاش حول مستقبل النظام الإقليمي المشترك، وجدوى إعادة هندسة توازنات القيادة داخله .

في جوهره، يعكس هذا الطرح السعودي ملامح ديناميكية جديدة تتسارع وتيرتها في الإقليم، حيث تتموضع بعض العواصم في مساحات نفوذ أوسع مدفوعة بزخم اقتصادي هائل، وتصاعد ملحوظ في الأدوار الدبلوماسية والاستراتيجية .

 غير أن هذا الحراك، مهما بدا مشروعاً في بعده الوطني، يلامس مباشرة جوهر التوازنات الرمزية والسيادية في البيت العربي، بما يهدد بتحويل مؤسسة الجامعة إلى ساحة تجاذب نفوذ أكثر من كونها مظلة جامعة لمصالح الأمة العليا .

 

لكن في عمقه الحقيقي، يلامس هذا المقترح إحدى أعقد وأدق مفاصل النظام العربي المشترك: مسألة قيادة الأمة وصياغة الشرعية الرمزية في بنية القرار الإقليمي، حيث لا يدور الصراع حول مجرد منصب إداري، بل حول من يمتلك حق تمثيل ضمير الأمة وتحديد بوصلتها الاستراتيجية في زمن التحولات الكبرى .

 

مصر العروبة ... 

قيادة تاريخية متجذرة في وجدان الأمة

 

لم تكن مصر يوماً مرشحة لقيادة الجامعة العربية لمجرد موقعها الجغرافي أو كثافتها السكانية، بل لأنها بكل بساطة شَكَّلت حجر الأساس في بناء النظام العربي ذاته . 

فمنذ لحظة ميلاد الجامعة في أربعينيات القرن الماضي، كانت القاهرة هي المحرك الفعلي لعروبة لا تعرف التردد في مواجهة التحديات المصيرية .

 

لقد حملت مصر راية الأمة في لحظات العسرة والأمل معاً :

 • قادت دعم حركات التحرر الوطني من الجزائر إلى اليمن، ومن ربوع أفريقيا إلى قلب المشرق العربي .

 

• خاضت أربع حروب كبرى دفاعاً عن فلسطين والحق العربي في مواجهة العدوان الإسرائيلي .

 

• تحولت إلى الحاضنة السياسية والروحية لقيادات النضال العربي، فجمعت تحت مظلتها رموز المقاومة من المشرق والمغرب .

 

 

٠ أحتضنت مصر الملايين من أبناء الأمة العربية الذين شردتهم الحروب والنزاعات، كثير منها كان ثمرة صراعات إقليمية أو مغامرات سياسية ساهمت بعض الدول الثرية في إذكائها أو تغذيتها، بينما ظلت القاهرة تفتح أبوابها حاضنة الجراح ومدافعة عن سلامة الأرض للبلدان المتضررة، والحفاظ على وحدة الصف العربي في أحلك الظروف .

 

• مارست عقلانية التوازن والاحتواء العربي في مواجهة مشاريع التقسيم والهيمنة الإقليمية والدولية، لتبقى صمام الأمان للأمن القومي العربي برمته .

 

إنها قيادة تأسست على التضحيات لا على التفاهمات الظرفية، وعلى الانتماء الحضاري العميق لا على المكاسب العابرة .

 

قيادة لم تُفرض …

بل دُفِعت أثمانها

 

إن أي حديث عن تداول منصب الأمين العام للجامعة العربية، ينبغي أن يُبنى على إدراك واضح لحقيقة تاريخية جوهرية :

مصر لم تفرض يوماً هذا الموقع لنفسها بسطوة أو وصاية، بل أنتزعته بحجم الأعباء والتضحيات التي حملتها على مدى عقود طويلة، دفاعاً عن الكيان العربي المشترك وهويته في وجه الأعاصير .

 

لقد دفعت القاهرة من أمنها القومي، ومن اقتصادها، ومن دماء جنودها وأبنائها، أثمان معارك كبرى نيابة عن الأمة جمعاء . 

خاضت صراعات لم تكن لحسابها الضيق، بل لحساب وحدة العرب واستقلال قرارهم في مواجهة الاستعمار، والعدوان، ومحاولات تفكيك الهوية الجامعة .

 

هذه ليست قيادة وُلدت من توازنات مالية أو تحولات ظرفية؛ إنها قيادة صاغتها التضحيات، ورسّختها معادلة الوفاء العميق لمصير الأمة كلها .

 

خطر الانقسام … 

وتفكيك وحدة القرار العربي

 

ما يُطرح اليوم تحت لافتة " تدوير المنصب " لا يمكن النظر إليه بمنأى عن جوهر معركة النفوذ التي تتصارع فوق المسرح العربي . 

فالمسألة لم تعد محصورة في مسألة إدارية شكلية، بل تلامس عمق المعادلة الإستراتيجية للنظام العربي ذاته .

 

تخشى عواصم عربية كثيرة أن يتحوّل هذا التغيير في قيادة الجامعة إلى شرخ خطير في الجبهة العربية، حيث تنزلق المؤسسة الجامعة إلى ساحة تصفيات نفوذ تتحكم بها موازين المال والتحالفات الطارئة، بدلاً من أن تظل مظلة وفاق قومي يعلو فوق الحسابات الظرفية .

 

لقد كان توازن الجامعة، رغم كل عثراته، صمّام أمان يمنع انهيار النظام العربي أمام ضغوط الخارج وصراعات الداخل، ويمثّل مرجعية تحفظ الحد الأدنى من وحدة القرار العربي المشترك في مواجهة مشاريع الإقصاء والتفكيك التي تهدد الأمن القومي العربي من أساسه .

 

الجامعة العربية في لحظة مفصلية : 

بين الإنقاذ والانزلاق

 

في لحظة يتهاوى فيها بنيان العديد من الدول العربية، وتتفكك مؤسساتها الوطنية تحت ضربات الحروب الأهلية والصراعات الإقليمية والاختراقات الدولية، تزداد الحاجة إلحاحاً لإعادة ترميم البيت العربي المشترك على أسس سلامة الأراضي وصلابة الموقف وسيادة القرار .

 

اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تبدو الجامعة العربية مطالبة بأن تستعيد وظيفتها الأصيلة كمظلة سيادية جامعة تحمي وحدة العرب وقرارهم المستقل، لا أن تتحول إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات، أو ميدان نفوذ يتقاذفه صراع المحاور والصفقات الظرفية، في وقت تتزاحم فيه القوى غير العربية على إعادة رسم خرائط النفوذ في قلب الجغرافيا العربية ذاتها .

 

إن ما هو مطروح الآن لا يتعلق بمجرد تداول منصب، بل بمستقبل المشروع القومي العربي نفسه : 

هل يستعيد توازنه التاريخي، أم ينزلق إلى حالة من التشظي، وهو الخطر الذي يفرغ الجامعة من مضمونها، ويدفع العرب دفعاً نحو مزيد من التفكك والانكشاف ؟

 

السعوديون ودورهم العربي الحيوي … 

ولكن في إطار التوازن التاريخي

 

لا يمكن لأحد أن يتجاهل اليوم ما باتت يمثله السعوديين من ثقل اقتصادي وسياسي محوري في قلب المشهد العربي، بل وفي المعادلات الإقليمية والدولية الأوسع . 

 

لقد ساهمت الرياض في دعم استقرار الإقليم، واحتضنت بعض من المبادرات السياسية والدبلوماسية والإنسانية التي تعاملت مع تعقيدات الأزمات العربية من الخليج إلى المشرق وحتى شمال أفريقيا .

 

لكن أهمية هذا الدور المتنامي يجب أن تظل مندمجة ضمن منظومة التوازن العربي الأصيل، الذي يقوم على تكامل الأدوار لا هيمنة طرف على آخر، وعلى احترام الرمزية التاريخية التي أسست النظام العربي منذ نشأته لا السعي لتغيير معادلات القيادة تحت ضغط التحولات المالية أو الجيوسياسية الظرفية .

 

إن جوهر القوة الحقيقية للسعوديين لا يكمن في إعادة هندسة موازين القيادة، بل في تعميق قدرتهم على رعاية الصف العربي وتحصين تماسكه، عبر إطفاء بؤر النزاعات وتهدئة الانقسامات لا تأجيجها، خصوصاً في اليمن — مهد الحضارة العربية وأحد أعمدة عمقها الحضاري والإنساني — مع الحفاظ على التوازنات التاريخية التي شكّلت عبر العقود صمام أمان لوحدة النظام العربي المشترك واستقراره .

 

دور محوري ….

يستدعي الحكمة لا كسر التوازن

 

ورغم أهمية هذا الدور المحوري الذي يضطلع به السعوديين اليوم، إلا أن تعظيم أدوار النفوذ لا يعني بالضرورة الشروع في إعادة هندسة معمار النظام العربي على نحو يهزّ أسس التوازن التاريخي الذي استقر لعقود داخل الجامعة العربية .

 

فجوهر الحكمة السياسية في هذه اللحظة الدقيقة يقتضي أن تبقى العلاقة بين الرياض والقاهرة قائمة على معادلة تكامل الأدوار وتنسيق المسارات، لا الدخول في سباق حول المواقع الرمزية التي تُمثل رصيداً عميق الجذور للقيادة المصرية في النظام العربي .

 

فالتوازن هنا ليس مجرد توزيع مواقع، بل هو حماية للنظام العربي من الانزلاق إلى مسارات الاستقطاب الحاد الذي طالما دفع العرب كلفته باهظة في محطات تاريخية مؤلمة .

 

الجامعة العربية …

في لحظة مفصلية فارقة

 

في جوهر الأمر، ليست المسألة صراعاً حول شخص بعينه أو دولة بعينها، بل معركة على هوية ومستقبل النظام العربي ذاته .

 

فالسؤال الجوهري الذي يواجه العواصم اليوم يتمثل في :

 • هل يبقى النظام العربي قائماً على شرعية تاريخية متجذرة، تستند إلى توازن السيادة بين الدول العربية الكبرى التي صنعت مشروع الوحدة والريادة منذ عقود؟

 

• أم ينزلق إلى هندسة جديدة من المحاور الطارئة والتوازنات الظرفية، حيث يتفتت القرار العربي إلى مراكز نفوذ متناحرة، ويفقد النظام العربي بوصلته الجامعة لصالح صراعات مستوردة وأجندات متضاربة ؟

 

إنها لحظة اختبار كبرى :

 بين من يريد الحفاظ على مظلة عربية جامعة تحمي السيادة وتوازن المصالح، وبين من قد يفتح دون قصد أبواب تجاذبات حادة تُعمّق الانقسامات وتُضعف مناعة النظام العربي في مواجهة تحديات الخارج .

 

دروس التجربة العربية … 

مع تدوير القيادة

 

لقد خبرت الدول العربية منطق “ تدوير القيادة ” في العديد من الكيانات والمؤسسات العربية المشتركة خلال العقود الماضية، وكانت النتيجة - في أغلب الأحوال - مزيداً من إضعاف الكيانات لا تعزيز حضورها .

 

فعوضاً عن ضخ دماء جديدة أو تطوير الأداء المؤسسي، تحوّلت أغلب تلك المؤسسات إلى هياكل شكلية فارغة من المضمون، عاجزة عن اتخاذ قرارات استراتيجية فاعلة، وتدريجياً فقدت تأثيرها وصدقيتها، وأصبحت مجرد واجهات ديكورية لتوازنات متضاربة، لا منصات قادرة على إنتاج قرار عربي موحد يخدم المصالح العليا للأمة .

 

إن نقل هذا النمط إلى قلب الجامعة العربية نفسها سيكون بمثابة مغامرة غير محسوبة العواقب، وقد يفضي إلى تفريغ الجامعة من دورها التاريخي كمظلة سيادية وضمانة أخيرة لوحدة القرار العربي في زمن الانقسامات العاصفة .

 

نحو معادلة حكيمة …

تضمن صلابة النظام العربي

 

إن الرؤية الأكثر رشداً اليوم، ليست في مقايضات المواقع ولا في إعادة توزيع رموز القيادة، بل في صياغة معادلة شراكة ذكية، تتيح لكل دولة عربية فاعلة أن تساهم بوزنها وتأثيرها ضمن منظومة تكاملية تحفظ التوازن ولا تخل بمعادلات الشرعية التاريخية .

 

وفي قلب هذه المعادلة، تظل مصر العروبة — بحكم دورها التأسيسي، وتجربتها العميقة، وإسهامها المتراكم في صون المصالح العربية العليا — الأحق والأجدر بمواصلة إمساكها بمقود الأمانة العامة للجامعة العربية، كضمانة لصيانة وحدة القرار العربي، وتثبيت الهوية الجامعة في زمن تتلاعب فيه القوى الإقليمية والدولية بالفراغات السياسية والجيواستراتيجية في المنطقة .

 

إن الحفاظ على موقع مصر القيادي ليس ترفاً سياسياً، بل ركيزة ضرورية لصيانة ما تبقى من صلابة النظام العربي ذاته .

 

فمصر العروبة — التي دفعت عبر تاريخها كلفة الدفاع عن العرب من دماء أبنائها واقتصادها وأمنها القومي — لا تزال الأجدر بحمل عباءة القيادة العربية، ليس امتيازاً، بل تكليفاً وواجباً ومسؤولية .

 

نعم مصر التي نزفت دماء رجالها دفاعاً عن قضايا الأمة، وأنفقت من قوت شعبها دعماً لتحرر العرب، وحملت عبء الصراعات والحروب نيابة عن الجميع — تبقى الأحق والأكفأ، لا على سبيل الامتياز الشخصي أو الجغرافي، بل بحكم الدور التاريخي العميق والتكليف الوطني والقومي الذي ارتضته لنفسها وارتضاه لها العرب جيلاً بعد جيل .

 

الخلاصة :

 

إن المساس بموقع مصر في قيادة الجامعة العربية لا يُعد مجرد تبديل في شاغل منصب إداري، بل يمثل خطاً فاصلاً بين الحفاظ على وحدة النظام العربي أو فتح بوابة الانقسام العميق في زمن بلغت فيه التحديات ذروتها، وانكشفت فيه هشاشة البيت العربي أمام أعين الجميع .

 

في هذه اللحظة الحرجة من التاريخ، يحتاج العرب إلى تعميق الحكمة لا تعميق الشقاق، إلى ترميم الجبهة العربية لا اختبار تماسكها بمغامرات التغيير غير المحسوب .

فليكن القرار جماعياً نابعاً من إدراك حجم المخاطر، ومن استشعار الواجب القومي الأسمى في حماية ما تبقى من نواة النظام العربي، الذي تبقى مصر قلبه النابض وعقله المركزي .

كلمات المفتاحية:

0 تعليق

أضف تعليقك

إلى الأعلى