إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
( 1 )
في بلدٍ عُرف بتنوع تضاريسه وتوازن أقاليمه، تتبدّى اليوم مفارقة مروّعة لا تُناقَش في العلن :
أكثر من ثلاثة أرباع سكان اليمن باتوا متركزين في الشمال والغرب، في خريطة بشرية لا تعبّر عن عدالة الجغرافيا ولا تعكس التوازن التاريخي لمكونات اليمن الكبير .
قد يبدو هذا الرقم جافاً أو محايداً على السطح، لكنه في جوهره يختزن تاريخاً مكتوماً من الجراح، والمآسي الصامتة، والهجرات القسرية، والتشريد المنهجي الذي تعرّض له ملايين اليمنيين، خاصة من أبناء الجنوب والشرق، على مدى عقود متراكمة من القمع والصراع والخراب .
ففي صمتٍ مريب، جرى إعادة رسم خارطة اليمن السكانية دون إعلان، ودون مساءلة، ودون اعتراف بالضحايا .
نزوحٌ داخلي هائل من الجنوب والشرق إلى الغرب والشمال، أعاد توزيع اليمنيين على الجغرافيا بطريقة مشوّهة، فاختلت الكتلة الديمغرافية، واهتزّ معها التمثيل السياسي، والوزن الإداري، والعدالة في التنمية .
لكن الأخطر من ذلك، أن هذا التحول السكاني الجذري لم يُنظر إليه يوماً كجريمة سياسية، أو كملف وطني يستحق المصارحة والمعالجة .
بل ظلّ حبيس الظلال، يتوارى خلف مصطلحات باردة مثل “ التحول السكاني ”، و” التمركز الحضري ”، وكأنّ من هُجِّر لم يُنتزع من جذوره، ولم يُزجّ به في الهامش، ولم تُسرق منه مدينته، وبيته، ومرفأه، وتاريخه .
من هجّرة ؟ ولماذا ؟ وأين ذهبت المدن التي أُفرغت ؟
تلك أسئلة لا يجرؤ كثيرون على طرحها، لأنهم يعرفون أن الجواب يفتح بوابة مؤلمة من الحقائق المطموسة …
وأن الطريق إلى العدالة السكانية يمرّ أولاً من الاعتراف بالمأساة، ورفع الغطاء عن “نزوح الصمت” الذي غيّر شكل اليمن – دون أن يعالجه أحد .
الجنوب الذي طرد أبناءه
… والبداية من الدم
لم تكن لحظة خروج الاستعمار البريطاني من عدن عام 1967 إعلاناً لميلاد وطنٍ حرّ، بل كانت – بكل مرارة التاريخ – لحظة ميلاد دولة مبتورة، خرج منها المستعمر لتبدأ حرب الداخل على الداخل، وتتحوّل الأرض المحررة إلى ساحة تطهير سياسي داخلي .
في الفراغ الذي خلّفه البريطانيون، لم تتقدّم الدولة، بل تسابقت الفصائل، لا لبناء المؤسسات، بل لاقتسام الغنائم، وخنق المدينة التي كانت درّة الموانئ وقِبلة المشرق .
فاندلع الصراع بين جبهة التحرير والجبهة القومية، لا كتنافس سياسي مشروع، بل كحرب شوارع شرسة تُديرها الولاءات المغلقة، وتُغذّيها عقلية الإقصاء الثوري .
في عدن، التي كانت قبل أيام من ذلك بندر الشرق الأوسط، وثاني أهم ميناء ومطار في العالم، حلّت البنادق محلّ الأحلام، وحلّت التصفيات محلّ التعايش، وانهارت النخبة التجارية والمدنية أمام زحف الشعارات الحمراء التي لا ترى في الوطن إلا ساحة للفرز والولاء .
آلاف الكوادر والمثقفين والعائلات والتجار جرى تهجيرهم قسراً، لا إلى الخارج، بل إلى الداخل الآخر :
إلى الشمال والغرب.
لم تكن هجرة بحثاً عن فرص، بل فراراً من ساحة تُقطَع فيها الروابط، ويُحاسب فيها الإنسان على أسمه، أو نسبه، أو موقعه السابق، أو موقفه من معركة لم يختر خوضها أصلاً .
وهكذا، ومنذ لحظة ما بعد الاستقلال، بدأ الجنوب في طرد أبنائه بصمتٍ مروّع، وتحوّل الحلم الوطني إلى مشروع إخلاء بشري طويل الأمد، شتّت الناس وكسّر المدن، وترك الجراح مفتوحة على امتداد الخريطة .
مدنيون في مرمى البنادق …
وعدن التي دُفنت حيّة
لم يكن المدنيون أطرافًا في الصراع، لكنهم كانوا أول من دُفع إلى فوهته، بلا خيار ولا درع .
كوادر، مثقفون، تجار، وعائلات كاملة جنوبية وشرقية وُضعت بين فكَّي المقصلة :
نار التصفيات من جهة، وهاجس النجاة من جهة أخرى.
فلم يكن أمامهم سوى النزوح، لا رغبة في حياةٍ أفضل، بل هرباً من موت بلا معنى، وواقع بلا أفق .
عدن، التي كانت يوماً منارة التنوير، والمدنية، ووجهة الفكر، ومدينة الدولة الممكنة، انحدرت – عقب الاستقلال – إلى مصير أكثر قسوة :
مدينة بلا أمان، ولا حياد، ولا قانون يحمي إنسانها .
فتحولت شوارعها من ممرات مدنية إلى ممرات رعب، ودفنت في ترابها تلك الطبقة الوسطى العدنية التي كانت تشكّل النواة الطبيعية لأي مشروع وطني مدني حديث .
لم يكن القتل فقط جسدياً، بل كان وجودياً .
إذ أُجهِز على فكرة الدولة من خلال الإجهاز على الطبقة التي تحمل مشروعها، فغادر الجنوب نُخبه، وتشرّدت الذاكرة، وتحوّل المواطن إلى لاجئٍ في وطنه الآخر .
هكذا وُلدت عدن ما بعد الاستقلال :
منكوبةً لا من حرب استعمارية، بل من خيانة المشروع الوطني على يد أبنائه أنفسهم .
وهكذا، لم يولد الوطن من رحم الحلم … بل من نزيفه . نعم لقد بدأت القصة بالدم، لا بالوطن .
عدن …
حين كانت بندر الشرق وقلب العالم
قبل أن تُطفئ السياسة أنوارها، كانت عدن درة الموانئ، وبوابة البحار، وملتقى القارات.
كانت بندر الشرق الأوسط بلا منازع، وثاني ميناء في العالم من حيث الأهمية، بعد نيويورك مباشرة، ومطارها كان من الأكبر والأكثر حركة في العالم، يعبره العالم من شرق الأرض إلى غربها .
في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كانت عدن المركز التجاري الأول في الجزيرة اليعربية والقرن الإفريقي، ونقطة التقاء السفن والتجارة والثقافات واللغات .
لم تكن مجرد مدينة، بل نموذجاً مصغّراً لحلم عربي مزدهر، حيث كان البحر يمتلئ بالحاويات، والشوارع تضج بالمقاهي، والنوادي، والمدارس، والمكتبات، والنقابات، والحياة .
كانت عدن مرآة للعصر، ونافذة يطل منها العالم العربي على المستقبل .
وكانت تحتضن في أحيائها خليطاً إنسانياً نادراً :
يمنياً، هندياً، صومالياً، يهودياً، بريطانياً، عربًا من كل صوب، في توليفة حضارية ساحرة لم تعرفها أي مدينة في الإقليم .
لكن كل ذلك المجد … تمزّق بفعل الصراعات، وغابت عدن في الظل بعد أن كانت النور .
ضُربت بالبندقية الحزبية والقرارات العشوائية، حتى تحوّلت من ميناء العالم إلى ميناء مهجور، ومن قلب التجارة إلى قلب النزيف .
إن الحديث عن عدن ليس حنيناً إلى ماضٍ جميل فحسب، بل دعوة لاستعادة الدور، وتصحيح الانحراف التاريخي، وإعادة الروح إلى المدينة التي لا تموت .
عدن …
من قمة المدنية والرقي الإنساني إلى بندقية النزوح
قبل أن تتشظى الجغرافيا، وتتشوه الذاكرة، كانت عدن أيقونة الشرق الأوسط، ومفخرة البحار العربية، تحتضن ثاني أكبر ميناء في العالم، ومطاراً دولياً يسبق عصره، ومركزاً تجارياً لا ينافسه سوى الحلم .
كانت عدن هي النبض الاقتصادي لجزيرة العرب والقرن الإفريقي، بندراً دولياً تتقاطع عنده القوافل والبواخر، وتلتقي فيه الثقافات والحضارات، وتنهض منه التجارة، والفكر، والمدنية .
لم تكن مدينة، بل مشروع نهضة .
من أرصفتها كانت تنطلق السفن إلى كل مرافئ العالم، ومن أحيائها كانت تتشكّل الطبقة الوسطى اليمنية الأكثر تعليماً وانفتاحاً .
كانت عدن أقرب إلى حاضرة عالمية في قلب الجزيرة، تمثل نافذة اليمن على الحداثة، وجسراً حضارياً بين الشرق والغرب .
لكن، ما إن انسحب المستعمر البريطاني، حتى بدأ الانحدار، ليس لأن العدوان أتى من الخارج، بل لأن المركز الحضاري الذي مثّلته عدن تحوّل في نظر الرفاق إلى خطر يجب ترويضه أو كسره .
فأُطفئت الأضواء، وأُغلقت النوافذ، ودُفنت أحلام المدينة تحت ركام الاشتباكات والانقلابات، وبدأ فصل النزوح الكبير … من بندر التنوير إلى منفى الداخل .
حين احترق الحلم في مهده :
صراع الجبهة القومية وجبهة التحرير
لم يكن الاستقلال عن بريطانيا عام 1967 نهاية للاحتلال، بل بداية لصراعٍ داخلي أكثر عنفاً وضراوة، بدأ لا من أجل الوطن، بل لمن يحتكر الوطن .
ففي لحظة مفصلية كان يفترض أن تُكتب فيها فاتحة الدولة الجديدة، اندلع الصراع بين الجبهة القومية وجبهة التحرير، لا على مشروع بناء، بل على حقّ تمثيل “التحرير” نفسه. كانت النتيجة :
ولادة دولة من رحم الدم، لا من رحم الإجماع .
في تلك الأيام الدامية، تحوّلت عدن من منارة للوعي إلى مسرح للاغتيال، ومن مدينة تقرأ الصحف بثلاث لغات إلى مدينة يُصفّى فيها المثقفون برصاص الرفاق .
أنفجرت المواجهات بين الجبهتين في شوارع المدينة، في الأزقة والمدارس والموانئ، وارتفعت رايات الفصائل على أنقاض المؤسسات، ولم ينجُ من الجمر أحد .
كانت حرباً أهلية صغيرة بمصير كبير، أنتهت بسيطرة الجبهة القومية بدعم عسكري وتنظيمي، وإقصاء كامل لجبهة التحرير، وبدل أن تُبنى الدولة على قاعدة التنوع، أُسِّست على مفردات التخوين والتصفية والاحتكار الثوري .
خلال أسابيع، نزحت آلاف الأسر من عدن والجنوب والشرق إلى شمال الوطن وغربه، ليس لأسباب اقتصادية، بل لأن الهوية أصبحت تهمة، والانتماء إلى فصيل “مهزوم” بات جريمة لا تُغتفر .
كانت تلك لحظة الولادة القسرية للنزوح الكبير، من الجنوب والشرق إلى الشمال والغرب، الذي سيُعيد لاحقًا رسم الخارطة السكانية والسياسية لليمن كله … دون أن يُكتب ذلك في كتاب التاريخ و الديمغرافيا .
يتبع
0 تعليق