نزوح الصمت2 :  لماذا يعيش ثلاثة أرباع اليمنيين في الشمال والغرب ؟

نزوح الصمت2 : لماذا يعيش ثلاثة أرباع اليمنيين في الشمال والغرب ؟

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

                                           

سلسلة ( 2 )

 

في بلد يُعرَف رسمياً باسم “اليمن الموحد”، يتجلّى واقعٌ أكثر تعقيداً مما ترسمه الخرائط :

تشظٍّ صامت أعاد رسم التوزيع السكاني، وذاكرة وطنية أثقلتها التحوّلات، لكنها لا تزال تحتفظ ببذور الأمل .

فبرغم الندوب التي خلّفتها النزاعات، ما زال الحلم بوطنٍ جامعٍ ممكناً — وطنٍ يعيد الاعتبار لتاريخه، ويصنع مستقبله بمعرفةٍ أعمق بجروحه، وإرادةٍ حقيقية لتضميدها .

 

ففي مشهد لا تُسلّط عليه الأضواء، بات أكثر من ثلاثة أرباع سكان اليمن متمركزين في الشمال والغرب، في تكدّس سكاني لا يفسّره الاقتصاد ولا المناخ، بل تاريخ طويل من النزوح القسري، والإقصاء السياسي، والانهيارات المجتمعية التي أعقبت لحظة الاستقلال .

 

إنه نزوحٌ صامت، لم يبدأ مع الحرب الأخيرة، بل منذ خمسين عاماً . 

نزوح هادئ في مظهره، مدوٍّ في مضمونه، حين هُجِّرت الكفاءات، وسُحِقت الطبقة الوسطى، وتم تفريغ الحواضر من أهلها الحقيقيين، تحت شعارات التحرر، وفي ظلال البنادق، لا في ضوء الدولة .

 

بين التحرير والقومية :

رصاصتان في صدر الوطن

 

لم يكن خروج الاستعمار البريطاني من عدن عام 1967 إعلاناً لتحرر الوطن، بل انحداراً سريعاً نحو صراع دموي داخلي، حمل راية “التحرير” بيد، والسلاح بيد أخرى .

 

 لقد وُلدت الجمهورية الجنوبية من رحم الانقسام لا من رحم التوافق، حين تقاتلت جبهتان يفترض أنهما كانتا توأمين في الثورة، فإذا بهما رصاصتان متبادلتان في صدر الوطن الوليد .

 

جبهة التحرير، بدعم من القاهرة الناصرية، قدّمت مشروعاً قوميّاً يتّكئ على البعد العربي والهوية القومية، وكان خطابها يفتح نوافذ باتجاه الأمة، لا الكهف .

 

 في المقابل، كانت الجبهة القومية تتنفس من رئة السوفييت والصين، وتحمل في جيناتها مشروعاً يسارياً راديكالياً، يرى في الدولة أداةً لتأميم الإنسان قبل الاقتصاد، ولإقصاء المخالف قبل الخصم .

 

في تلك اللحظة المفصلية، لم ينتصر الوطن، بل انتصرت الولاءات الضيقة والانقسامات المؤدلجة، وسقطت عدن من عليائها، لا بسقوط الاستعمار، بل بانهيار الحلم الوطني نفسه .

 

النشأة والتمويل :

 

اليمن بين القاهرة ودمشق … وملف الثورة في قبضة الخارج

 

لم تكن جبهة التحرير مجرّد تنظيم يمني نشأ في الداخل، بل كانت جزءاً من خارطة كبرى رسمتها القاهرة الناصرية في لحظة صعود المشروع العروبي . 

وُلدت الجبهة في حضن عبد الناصر، لا فقط بدعم خطابي أو تعاطف شعبي، بل برعاية مؤسسية كاملة من أجهزة الدولة المصرية، التي رأت فيها امتداداً طبيعياً للمد القومي في جنوب الجزيرة العربية .

 

تكوّنت الجبهة من مزيج نخبوي لافت : 

قوميون ناصريون، بعثيون، مستقلون، ووطنيون جنوبيون مثقفون كانوا يحلمون بدولة مدنية حديثة ترتبط بمشروع النهضة العربية .

 لم تكن رؤيتهم محلية أو انعزالية، بل مبنية على تصوّر لوحدة عربية كبرى، حيث يكون الجنوب اليمني بوابة بحرية للمشرق العربي، لا حديقة خلفية لأيديولوجيا مغلقة .

 

في المقابل، وعلى الضفة الأخرى من الخريطة، كانت دمشق تدعم بطرق غير مباشرة قوىً أخرى داخل الجنوب، فيما راحت موسكو وبكين تقتربان من الجبهة القومية، مما حوّل الجنوب إلى ساحة اشتباك باردة بين مشاريع دولية وإقليمية، كلٌّ منها يرى في اليمن بوابة استراتيجية لمشروعه الأوسع .

 

وهكذا، لم تكن بداية النضال ضد الاستعمار البريطاني خالية من الحسابات الكبرى، بل كانت – من البداية – محكومة بسقف التمويل، وخريطة الولاءات، ولعبة التوازنات بين العواصم لا بين البنادق .

 وبين القاهرة ودمشق، بدأت تتشكّل ملامح الحرب الأهلية المؤجلة … باسم الثورة .

 

الجبهة القومية :

الثورة التي التحفت بالماركسية … وانقلبت قبل أن تنتصر

 

في الجهة المقابلة من مشهد التحرير، بزغت الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل، لا بوصفها توأماً أيديولوجياً لجبهة التحرير، بل كتيار أكثر حدة، وأكثر جذرية في أدواته ورؤيته .

 ورغم أن خطابها بدأ كخطاب تحرري، إلا أن بُنيتها الداخلية كانت تحمل بذور التحوّل من حركة مقاومة إلى حركة استئصال .

 

نشأت الجبهة القومية في تقاطع مع الخط اليساري المتشدد، مستلهمةً أدبيات ماركسية – لينينية حملتها الرياح القادمة من دمشق وموسكو وبكين . 

كانت حاضنتها التنظيمية ممتدة عبر خلايا بعثية – من الفرع السوري تحديداً – ونوى ماركسية تشكّلت بين أوساط الطلبة والمثقفين العائدين من الخارج، المتأثرين بتجارب الثورة الصينية والفيتنامية والكوبية.

 

لكن ما ميّز الجبهة القومية لم يكن فقط التوجّه الأيديولوجي، بل القدرة على تفكيك الخصوم مبكراً، حتى قبل إسقاط الاستعمار . 

فقد تسللت إليها نزعة الانقلاب على الشريك الوطني قبل الانقلاب على المستعمر، فدخلت في صراع دموي مع جبهة التحرير، حمل طابع التصفية لا المنافسة، والاستئصال لا التعدد .

 

وهكذا، تحوّلت عدن — قبل أن تغادرها القوات البريطانية — إلى مختبر للدم لا للحرية، حيث استُبدلت بندقية الاستعمار ببندقية الرفيق، وسقطت أولى أحلام الدولة في رصيف الميناء الذي شهد آخر رحيل بريطاني وأول اغتيال يمني .

 

المسيرة : 

من الثورة إلى التصفية

 

رفاق الأمس … أعداء الدولة التي لم تولد بعد

 

بين عامي 1963 و1967، وبين أزقة عدن وجبال ردفان، لم تكن بندقية الثائر موجّهة فقط نحو المستعمر البريطاني، بل — في كثير من الأحيان — نحو الرفيق الآخر، الذي يحمل اسماً مختلفاً ورؤية مختلفة للدولة القادمة .

جبهة التحرير والجبهة القومية، كيانان وُلدا من رحم الثورة، لكنهما سرعان ما انقلبا على بعضهما البعض قبل أن تكتمل لحظة التحرر .

 

ما بدأ كتنافس على تمثيل الشارع الجنوبي، تحوّل بسرعة إلى تصفية جسدية وعمليات اغتيال منظمة، طالت قادة، ومثقفين، ونشطاء ميدانيين، بل وحتى عائلات بكاملها .

تحولت عدن، التي كان يُفترض أن تحتضن مشروعاً وطنياً متعدّد الرؤى، إلى ساحة لتصفية الحسابات بين الحلفاء المفترضين .

 

ومع اقتراب لحظة انسحاب بريطانيا في نوفمبر 1967، كانت الجبهة القومية 

قد حسمت المعركة ميدانياً، لا ضد الاستعمار، بل ضد شريك التحرير أولاً .

 

حصلت الجبهة القومية على دعم لوجستي من الاتحاد السوفييتي، الذي كان يبحث عن موطئ قدم أيديولوجي في خاصرة الجزيرة .

 

وبعد انسحاب آخر جندي بريطاني، لم تُمنح جبهة التحرير فرصة المشاركة في تقرير مصير البلاد، بل تم إقصاؤها بالكامل، وطُردت كوادرها إلى شمال الوطن وغربه، وأُعلنت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، تحت هيمنة كاملة للجبهة القومية، التي استبدلت حلم التعدد الثوري بواقع الحزب الواحد والرؤية الواحدة والصوت الواحد .

 

وهكذا، لم تكن الدولة الوليدة نتاجاً لتوافق وطني، بل نتاجاً لعملية إقصاء واسعة، تأسست على الدم لا الدستور، وعلى الولاء لا الكفاءة، وعلى الانتقام لا المصالحة .

 

الصراع الدموي : 

حين التهمت الثورة أبناءها

 

لم يكن انتصار الجبهة القومية على جبهة التحرير نهاية للصراع، بل كان بداية لانقلاب شامل على التنوع، ومدينة الدولة .

عدن، التي لطالما كانت حاضنة للتعدد والانفتاح، وجدت نفسها فجأة تحت قبضة منظومة حزبية مغلقة، تحوّلت فيها الثورة إلى سلطة، والسلطة إلى احتكار، والحزب إلى دولة داخل الدولة .

 

بدأت الجبهة القومية، بعد طرد خصومها، في هدم البنية المدنية للمجتمع العدني :

جرى تأميم الممتلكات الخاصة، والاستيلاء على البيوت والأراضي والمؤسسات المالية والمتاجر، وأُغلقت الصحف والمجلات، وتمّ تفكيك النقابات والجمعيات الأهلية، وطُرد المئات من الكوادر والكفاءات تحت مسميات “التحقيق الثوري” و”التطهير الطبقي” .

 

تحوّلت عدن من مدينة تجارية مفتوحة على العالم، إلى عاصمة حزينة تحت وصاية حزب شمولي واحد، لا يقبل الآخر، ولا يتحمّل حتى تنوّع الأفكار داخل صفوفه .

 

لكن المفارقة الكبرى أن الثورة لم تكتفِ بالتنكيل بخصومها، بل بدأت تأكل أبناءها مبكراً . 

ففي يونيو 1978، تم اغتيال الرئيس سالم رُبَيِّع علي ( سالمين )، أحد أبرز قادة الثورة، في ظروف غامضة بعد صراع داخلي على السلطة داخل أجنحة الجبهة القومية . 

وقبله، كان فيصل عبد اللطيف الشعبي – أول رئيس وزراء بعد الاستقلال – قد أُعدم عام 1970، في واحدة من أوائل الضربات الدموية التي وجهتها الثورة لقياداتها .

 

 ظل التوتر بين الأجنحة المتصارعة للجبهة القومية، وبلغت ذروتها في المذبحة السوداء يوم 13 يناير 1986، حين انقلب “الرفاق” على بعضهم، في مشهد دموي مروّع لم يعرف له الجنوب مثيلاً منذ الاستقلال .

 

قُتل المئات، وشُرّد الآلاف، وتفكّكت الدولة من داخلها، وسقط ما تبقّى من مشروع وطني في مستنقع التصفيات والانتقام … هذه المرة لا بين فصائل متنازعة، بل داخل الفصيل الواحد، والحزب الواحد، بل بين من كانوا في الخندق ذاته.

 

في ذلك اليوم، تم دفن آخر وهمٍ عن دولة وطنية في الجنوب، وظهرت الحقيقة العارية :

أن الثورة التي لا تؤمن بالتعدد، تنتهي بالانتحار … وأن الحزب الذي لا يحتمل النقد، يبدأ بذبح الحلم، ثم يذبح نفسه .

 

في الخلاصة :

 

لم يكن الصراع بين الجبهة القومية وجبهة التحرير مجرد خلاف بين تنظيمين، ولا مجرّد صراع على من يرفع علم الاستقلال، بل كان صراع مشاريع إقليمية ودولية متشابكة، تقاطعت فوق أرضٍ لم تُشفَ بعد من جراح الاستعمار، ولم تُمنح فرصة لبناء دولة متماسكة .

 

لقد تحوّل الوطن الهش إلى ساحة تصفية حسابات بين محاور عربية ودولية، تتصارع بأدوات محلية على الجغرافيا اليمنية . 

 

وبينما كانت البنادق ترفع شعارات الحرية، كان الواقع يقول : 

كل طلق ناري كان يقتل جزءاً من الحلم، وكل فصيل كان يشطب الآخر من الوجود .

 

وفي هذا الجنون الأيديولوجي، لم يكن المواطن العدني طرفاً في الصراع، بل كان ضحيته الكبرى .

معلّق بين فوهات البنادق، ومطارد بشبهة الولاء الخاطئ، نزح الآلاف من عدن وأبين ولحج والضالع والأصقاع الشرقية ( شبوة - حضرموت - المهرة ) إلى الشمال والغرب، لا طلباً للفرص، بل فراراً من موتٍ بلا ملامح .

 

وهكذا، تحوّل الوطن الذي وُلد من رحم التحرر، إلى مكان يُقتل فيه الحلم، وتُطرد فيه الكفاءات، وتُصادر فيه الحياة باسم الثورة .

 

لقد أُهدر مشروع الدولة قبل أن يولد، وضاعت عدن - المدينة المتألقة في الشرق الأوسط – تحت ركام الشعارات، وسقطت التعددية في فخ الحزب الواحد، والصوت الواحد، والفكر الواحد .

 

اليوم … لا مصالحة دون مراجعة لحظة السقوط الأولى

 

لا يمكن اليوم لأي مشروع مصالحة وطنية أن يُكتب له الصدق أو النجاح، ما لم يبدأ من تلك اللحظة المؤسسة للنكبة … لحظة ما بعد الاستقلال، حين بدا أن الوطن نجا من الاستعمار، لكنه سقط في فخ أبنائه .

 

سقط الحلم المدني لحظة سقطت عدن، لا تحت أقدام الغزاة، بل تحت أحذية الرفاق .

 

في تلك اللحظة، انقلب الكفاح من شعلة تحرر إلى لعنة أبدية، وتحول الثائر إلى سجّان، والوطن إلى زنزانة، والناس إلى ضحايا لشعاراتٍ لم ترحمهم .

 

ومن هناك، من نقطة الانهيار الأولى، بدأت قصة الشتات، وتفكّكت مدينة الازدهار والرفاهية والراقي، ومنارة التجارة العالمية، وتلاشت فكرة التقدم والمدنية، وتحوّلت الثورة إلى ذاكرة دامية تلاحق أصحابها، وتُطاردنا حتى اليوم .

 

فمن دون تفكيك تلك اللحظة، ومصارحة الذات، ومساءلة التاريخ … لن يكون هناك بلد معافى، ولا يمنٌ جديد، ولا مصالحةٌ تستحق أن تُسمى وطنية . 

 

اليوم، لا يمكن لأي مشروع مصالحة أن ينجو من الزيف ما لم يجرؤ على فتح الجرح المؤسِس : 

لحظة ما بعد الاستقلال، حين انكسر الحلم الكبير، وتحوّل الثوار إلى جلادين، وعدن إلى مدينة منكوبة بالخيبة .

فمن لا يعترف بأشلاء الحلم، لا يمكنه أن يبني وطناً .

 

نعم لا يمكن لأي مشروع مصالحة أن يكتمل دون أن يمر من ذلك الجرح العميق، من لحظة ما بعد الاستقلال، حين سقط الأمل وسقطت معه عدن، والامنيات الجميلة، بالحرية، ومزيد من التقدم والإزهار . 

 

لكن الحقيقة ونقد التجربة والاعتراف لا يعني الاستسلام، بل هو الخطوة الأولى لاستعادة ما ضاع، وبناء وطن لا يُقصي أحداً ولا يُقدّس السجون .

 

فالحلم الذي تهشم يمكن أن يُرمم، إذا امتلكنا الشجاعة لنروي القصة كاملة، لا لنبكيها … 

بل لنبدأ من جديد .

 

يتبع

كلمات المفتاحية:

0 تعليق

أضف تعليقك

إلى الأعلى