شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
في قلب الجغرافيا اليمنية، حيث تتقاطع ثروات الأرض مع جراح الوطن، تنفرد محافظة مأرب بصورة استثنائية : فهي ليست فقط خزّان الطاقة، بل أيضًا مسرحٌ لتجربة سياسية مشوّهة تُدار من خلف الستار .
هناك، في ظلال النفط والغاز، تشكّلت سلطة موازية لا تعلن عن نفسها كدولة، لكنها تُمارس كل وظائفها؛ لا تلبس الزي الرسمي، لكنها تحتكر القرار، وتُعيد تشكيل الواقع بمنطق التنظيم لا بمنطق المؤسسات .
في مأرب – المحافظة التي نجت جزئيًا من السقوط العسكري، لكنها لم تنجُ من السقوط السيادي – نجح حزب الإصلاح، الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في اليمن، في هندسة نظام حكمٍ خفي، يتغذّى على موارد الدولة، لكنه يعمل ضد روح الدولة . بنى الحزب دولة داخل الدولة :
ذات أجهزة، وولاءات، وخطاب تعبوي، لكنها خالية من العقد الاجتماعي، وخارجة عن الرقابة، ومنفلتة من الحساب .
إنها دولة ترتدي وجه “ الشرعية ” وتُمارس سلوك “ الانقلاب ”، تُوظّف مؤسسات الأمن والقضاء والإعلام كأدوات حزبية، وتُراكم النفوذ على أنقاض الدولة اليمنية التي هُشّمت مرارًا، ثم جرى سرقتها روحيًا في هذا الإقليم الغني المأسور .
مأرب، إذًا، لم تعد محكومة بالقانون، بل محكومة بـ”عقيدة سياسية” ترى في الدولة وسيلة لا غاية، وفي المواطن موضوعًا للضبط لا شريكًا في القرار .
مأرب :
من ملاذٍ للنازحين إلى مختبر لانتهاك الإنسان
حين تدفّق اليمنيون إلى مأرب، فرارًا من جحيم الحوثيين، حملوا معهم آخر ما تبقّى من حلم الدولة : الأمان، الكرامة، والحياد .
ظنّوا أنهم يدخلون أرضًا ترفع علم الشرعية وتحمي الإنسان من عسف المليشيا، لكن الواقع كان أشد قسوة من التوقّعات .
فما إن تخطّوا بوابة مأرب الجنوبية الشرقية، حتى وجدوا أنفسهم في قبضة منظومةٍ حزبية تُحسن التمويه، لكن لا تُجيد الحُكم، وتُجيد السيطرة لكنها تُعادي الحريات .
في هذه الرقعة التي تحوّلت ظاهريًا إلى ملاذ آمن، تشكّل في الخفاء مختبر سلطوي حزبي يُعيد إنتاج أدوات القمع، لا على شاكلة الحوثيين الصريحة، بل بأساليب ناعمة من الخارج، خشنة من الداخل ؛ مؤسسات أمنية تحت غطاء الدولة، لكنها تُدار بمنطق الجماعة، ومحاكم تُراكم الملفات، لكنها تنفّذ أجندات حزبية قبل أن تقرأ القانون .
تحوّلت مأرب من مدينةٍ للنجاة إلى فضاء مغلق يُختبَر فيه المواطن كـ”موضوع أمني” لا كصاحب حق، وتُقاس ولاءات الناس لا وفق القانون، بل على مقياس التبعية السياسية .
من لم يكن داخل الدائرة الحزبية، صار على الهامش؛ ومن وقف خارج الصف، صار موضع اشتباه. هكذا أُعيد تعريف الإنسان في مأرب :
لا كلاجئ يبحث عن الأمان، بل ككائنٍ يجب ضبطه، تطويعه، أو عزله .
الأمن الحزبي :
من يحرر السجون من سطوة الإخوان ؟
لم تعد التقارير الحقوقية مجرد صدى لصوت الضحايا، بل تحوّلت إلى أدلة إدانة دامغة في وجه نظام أمني هجّن المؤسسات لصالح مشروع حزبي ضيّق .
ففي شهادات ميدانية موثقة، تتكرر التفاصيل الصادمة : اعتقالات تعسفية، إخفاءات قسرية، تصفيات ناعمة تجري داخل مكاتب تحمل لافتات رسمية مثل “الأمن الوطني” و”المخابرات العسكرية”، لكنها تُدار بروح التنظيم، لا بروح الدولة .
ليست مجرد انتهاكات فردية، بل سياسة ممنهجة تسير على هدى الولاء الحزبي .
فالجالس على كرسي القرار الأمني لا يستمد سلطته من الدستور، بل من بيعة فكرية حزبية مغلقة .
الأمن في مأرب، لم يعد وظيفة وطنية لحماية الناس، بل أداة سلطوية لحماية التنظيم من الناس .
بمعنى أدق :
الدولة تُستخدم كقناع، والمواطن يُعامَل كعدو محتمل ما لم يُثبت ولاءه .
في هذا السياق، تحوّلت السجون من مؤسسات إصلاح إلى مخازن صامتة للخصوم، وبدل أن تكون المعتقلات آخر الحلول، أصبحت أولى الأدوات .
هكذا تُدار مأرب :
كغنيمة سياسية لا كمسؤولية سيادية، وكأنّها ميراث حزبي في زمن الانهيار، لا محافظة تئنّ تحت ضغط النزوح، الحرب، والتطلّع المحاصر لدولة مدنية .
الإعلام الحرّ …
ضحية أخرى في معتقل التنظيم
في مأرب، لا يُكتم الصوت بالصراخ، بل يُخنق بالتهذيب الرسمي، والتشريع الموجّه، والاشتباه الوقائي .
كل كاميرا لا تُحسن زاوية التصوير وفق “المنشور الحزبي”، تُكسر أو تُقصى .
وكل قلم لا ينحني لهيبة الجماعة، يُشهر ضده سيف التخوين، أو يُغمد في زنازين التحقيق الطويلة .
هنا، لا حاجة لرقابة عسكرية معلنة ؛ فالرقابة تمارس بوجه مدني، وملامح قضائية، وأوامر خفية تُنزل من مكتب السياسي على رأس الصحفي .
يتم ترويض الإعلام لا عبر المواجهة، بل عبر الحصار الممنهج :
تهديدات مبطنة، منع تصاريح، تكميم للمنابر، واقتياد الأصوات الخارجة إلى ممرات مظلمة بلا محاكمة ولا تفسير .
المؤسسات الإعلامية المستقلة في مأرب تحوّلت إلى كائنات تحت المجهر، مرهونة للبقاء بشرط الصمت، أو ممارسة “الاحتراف الحزبي” المموّه بمصطلحات الوطنية .
والنتيجة :
مشهد إعلامي خاوٍ من الحقيقة، يعمل كمكبّر صوت لما يقوله “المرشد المحلي”، لا كمرآة للواقع .
تحت حكم الجماعة، الخبر يُصاغ كما تُصاغ خطب الجمعة، لا كما تُكتب التقارير .
والمواطن الذي يبحث عن الحقيقة، يجد نفسه أمام صورة زائفة مكتملة الإخراج، لكنها منزوعة الصدق، ومغمّسة بخطاب شمولي لا يرى في الإعلام سلطة رابعة، بل مجرد أداة دعائية تُطعِم الناس الوهم وتُغطي به انتهاكات الواقع .
في مأرب، لا تسقط حرية التعبير وحدها؛ بل تنهار معها فكرة الدولة ذاتها، حين تنقلب مؤسسات الأمن من حامية للمواطن إلى درع واقٍ لمصالح الجماعة، وحين يتحوّل صمت الصحافة إلى شاهد على اغتيال المعنى الحقيقي للسيادة .
فالدولة لا تُقاس بعدد مؤسساتها، بل بوظيفة هذه المؤسسات في حماية الحقّ لا تمكين الولاء .
فساد في زمن الحرب :
من يُحاسب إمبراطورية الغاز ؟
في مأرب، حيث الأرض تنزف ذهبًا من باطنها، تصعد ثروات الغاز والنفط لا إلى خزينة الدولة، بل إلى جيوب مغلقة ودوائر حزبية مغلّفة بالشرعية .
مليارات الريالات التي تُفترض أن تكون عصب الإنقاذ في بلد ممزق، تُدار داخل ما يشبه “الصندوق الأسود” : معتم، مُحصّن، غير خاضع لأي رقابة مؤسسية أو شفافية مالية .
والجميع يعرف بدقة أين تذهب تلك العائدات، ويرى نتائج غيابها بوضوح :
نازحون يفترشون التراب، جنود بلا رواتب، بنية تحتية آيلة للسقوط، وخدمات تُباع للمواطن وكأنها امتياز خاص .
في المقابل، تُموَّل أنشطة الحزب، وتُنفق أموال الدولة كأنها “ميزانية انتخابية مؤجلة”، تُستخدم للتمكين السياسي، وبناء الولاءات، وتمويل المعارك الإعلامية والتنظيمية، والأرقام الكبيرة والهائلة تجدها في إسطنبول .
الفساد هنا ليس عرضًا طارئًا في مشهد معقّد، بل نظامٌ متكامل يمارس السرقة السياسية بثوب الشرعية .
لا يوجد حساب، ولا جهة محاسبة، لأن من ينهب هو ذاته من يضع القوانين، ويرسم الخرائط، ويعيّن القضاة والمحققين .
إنها مأرب ما بعد الدولة :
ثروة تُنهب تحت لافتة الدفاع عنها، وغنيمة تُدار باسم الشرعية، بينما تُقصى الدولة الحقيقية خارج الأسوار .
أي دولةٍ تُبقي على قشرتها السيادية بينما تُعفي قلبها المالي من الرقابة ؟ وأي منطقٍ سياسي أو أخلاقي يقبل بتحويل محافظة كاملة إلى “ إقطاعية اقتصادية ” تُدار خارج حسابات الدولة، وتُسلَّم لجماعة دينية ذات فكر مغلق، تتعامل مع المال العام كأنّه “ فيء حزبي ” لا مورد وطني .
علاقة غامضة مع تنظيمات متطرفة :
اللعب بالنار
في ظلال الصراع الذي يضرب مأرب، تتردد أصداء روايات متشابكة عن تحالفات خفية بين جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة، تتراوح بين التغاضي الصامت عن تحركات متشددي القاعدة، والتوظيف التكتيكي لهم في عمليات اغتيال واستهداف سياسي انتقائي .
خاصةً عندما يتعلق الأمر بقمع أو إزالة خصوم بارزين من المجلس الانتقالي الجنوبي أو المؤتمر الشعبي العام .
هذا التواطؤ الظاهري، رغم غياب الوثائق الصريحة التي تثبته، يُفكك فسيفساء المشهد الأمني والسياسي عبر سلسلة من الاغتيالات والاختفاءات القسرية التي طالت عناصر وقيادات لم تلتزم بخط الجماعة أو جفّت مصادر دعمها .
في هذا السياق، تصبح مأرب أكثر من مجرد ساحة حرب ؛ إنها مسرح خطر يتشابك فيه السياسي مع الإرهابي، والمصلحة الحزبية مع الفوضى الأمنية، ما يضع المنطقة على شفا انفجار قد لا تقف عنده حسابات التنظيم أو الدولة .
هل تحوّلت مأرب فعلاً إلى حاضنة مؤقتة لجماعات راديكالية تتلقى غطاءً سياسيًا يبرر وجودها ويُهيّئ لها بيئة آمنة للتوسع ؟ وهل الصمت الرسمي، بل وربما التواطؤ الضمني، ما هو إلا جزء من صفقة كبرى ضمن هندسة المرحلة السياسية التي تتخطى حدود المحافظة لتشمل معادلات إقليمية ودولية ؟
هذه الأسئلة ليست مجرّد تكهنات ؛ بل تُطرح بقوة في أروقة المراقبين والسياسيين، الذين يرون في مأرب نموذجًا مصغرًا لمصير الدولة اليمنية نفسها، حيث تُقدّم الحسابات الحزبية والمصالح الخاصة على حساب أمن الوطن واستقراره .
في هذه اللعبة السياسية القذرة، يصبح استمرار تواجد هذه الجماعات المشبوهة، وتفشيها، جزءًا من لعبة الكراسي التي تُحركها مصالح خارجية وداخلية، على حساب دماء المدنيين ومستقبل اليمنيين .
مأرب ليست محرّمة على الدولة …
بل محتلة من داخلها
مأرب ليست تحت احتلال الحوثي فقط، بل تحت احتلال أخطر وأعمق :
احتلال حزبي داخلي .
الخطر الحقيقي لا يكمن في من يحمل السلاح ضد الدولة، بل في من يرفع راية حمايتها وهو ينهش عُصبها من الداخل .
فالتسلل إلى مؤسسات الدولة، وتحويلها إلى أدوات طيّعة في يد فصيل ضيق، ليس مجرد خيانة سياسية، بل هو انقلاب أعمق وأكثر استدامة من تلك التي تُشن بالقوة الخارجة .
هذا الاحتلال الخفي يُفرغ الدولة من جوهرها، ويُحول مأرب من عاصمة نفطية يُحتذى بها إلى قاعدة حزبية تُدار بمنطق الهيمنة والتقسيم .
هنا، حيث يُزج بالمواطن بين نار الحرب الخارجية ونار السيطرة الحزبية، تصبح مأرب ليس فقط مسرحًا للصراع، بل ساحة يُعاد فيها تشكيل الدولة على صورة مصالح ضيقة لا تستوعب سوى ولاء التنظيم، ولا تحترم سوى سلطة الحزب .
لقد نجح حزب الإصلاح في تحويل “الشرعية” إلى مجرد قناعٍ مزخرفٍ يُخفي وراءه مركز قوة مغلق لا يُحاسب، ولا يُشارك، ولا يُمثل سوى مصالحه الضيقة .
في مأرب، يعيش المواطن تحت وطأة ازدواجية مأساوية :
على الورق هناك دولة تنصّب نفسها حامية الحقوق، لكنها في الواقع مظلّة مليشياوية تمسك بكل مفاصل الحياة، وتوزع النفوذ والسلطة كملك خاص بعيدًا عن أي مساءلة أو رقابة .
الخلاصة :
مأرب تختنق …
والدولة تتآكل
حين تُختزل الدولة في حزب، وتُختصر السلطة في جماعة، وتُقايض الحقوق بالحماية، تدقّ أجراس الخطر بأعلى صوتها .
ما تشهده مأرب اليوم ليس مجرد خلاف سياسي أو صراع على النفوذ، بل انقلاب مكتمل الأركان، مدعوم بغطاء رسمي، ينخر في جسد الدولة من الداخل .
هذه المدينة التي كانت ملاذًا وأملًا للنازحين والمواطنين، باتت تحت وطأة احتلال حزبي يُجيد فنون المراوغة أكثر من فنون الحكم، وفنون القمع أكثر من بناء المستقبل .
مأرب ليست بحاجة إلى تحرير من الخارج وحده، بل إلى تحرير داخلي شامل ينهي الاستغلال الحزبي، ويعيد للدولة روحها ومهامها الحقيقية، ويعيد للمواطن كرامته وحريته .
إلى حين ذلك، تبقى مأرب تختنق، والدولة تتآكل، ويظل المواطن يدفع الثمن الأغلى في معادلة صعبة لا تقبل القسمة على اثنين .
0 تعليق