عدن بين التعايش والعنصرية : كيف لوّث وحوش القرية ماء المدينة الصافي ؟

عدن بين التعايش والعنصرية : كيف لوّث وحوش القرية ماء المدينة الصافي ؟

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

 

 

في قلب الجنوب اليمني، حيث كانت عدن درّة الموانئ ونافذة الروح نحو البحر والعالم، تتكسّر اليوم على صخورها أمواج غريبة الملمس والرائحة؛ أمواج عنصرية ومناطقية لم تعرفها المدينة يومًا . 

 

عدن، التي كانت تفتح ذراعيها للقادم قبل أن تسأله عن اسمه، وتصافح ملامحه قبل أن تنصت إلى لهجته، تجد نفسها فجأة في حصار ثقافي دخيل، فرضه طارئون جاؤوا من هوامش الانغلاق، يحملون في جعبهم ضيق الأفق، وخشونة القلب، وفساد الطوية. هؤلاء “وحوش القرية” لوّثوا صفاء هوائها، وبدّلوا ملامح نسيجها، وحاولوا جرح روحها التي خُلقت لتفيض بالمحبة لكل من وطئ أرضها .

 

عدن… 

هوية لا تُختزل في الجغرافيا

 

منذ مطلع القرن العشرين، كانت عدنُ مرسى الحضارات وملتقى الرياح الأربع، مدينةً تمشي في أسواقها رائحة البهارات الهندية جنبًا إلى جنب مع عبق العود العربي والصمغ الصومالي، ويختلط فيها عطر باريس برهافة الأناقة الإيطالية، وينساب النظام الإنجليزي بين أزقتها كأنما جُبلت عليه، بينما تتسلل من مقاهيها نكهة الشاي العدني الممزوج ببن يماني فاخر .

 

 في موانئها تلتقي الفسيفساء البشرية :

 الإيراني بتجارته، الشامي بحمصه، المصري بخفة روحه، العماني بوقاره، واليمني القادم من تعز وصنعاء والساحل الغربي وصحراء الشرق المجبولة بتاريخ حضارات موغلة في القدم . 

 

وفي شوارعها تتجاور حكايات البحّارة مع أغنيات ابن لحج وسيئون والحديدة وأبين، في سيمفونية إنسانية لا تعزفها إلا عدن، حيث البحر لا يفصل بل يجمع، وحيث المدينة لا تُعرّف بخطوط الخرائط بل بامتداد قلبها .

 

في عدن، لم يكن السؤال عن “الأصل” سوى مفتاحٍ يفتح أبواب الحكايات، ولم يكن الانتماء المناطقي إلا تفصيلة هامشية في فسيفساء أرحب من حدود المكان . 

 

كان العدني يعرّف نفسه بمدينته قبل قبيلته، 

 في الحياة قبل سلسلة نسب تحفظها الذاكرة .

 كانت هويته أفقًا بحريًا بلا ضفاف، لا خريطةً ضيقة ترسمها خطوط الجغرافيا .

 

لكن ما شهدته عدن في الأعوام الأخيرة، من مشاهد الترحيل القسري، وحرمان الناس من أبسط حقوقهم، والاعتداءات اللفظية والجسدية، وصولًا إلى وقائع فاضحة مثل قضية العدني مأمون الشيباني مع مدير قسم خور مكسر، لم يكن مجرد انحرافات فردية عابرة، بل تحوّلًا بنيويًا بالغ الصدمة . 

 

لقد تسرّبت هذه العدوى السلوكية المريضة إلى بعض مفاصل المؤسسات، حتى غدا القانون – في نظر بعض القائمين عليه – أداة انتقاء جغرافي لا ميزان عدالة ؛ يُمنح امتيازه وفق بطاقة الهوية المناطقية، ويُحجب عمّن لا ينتمي إلى “ الجهة الصحيحة ”، في خيانةٍ فادحة لجوهر الدولة وضمير المدينة .

 

 المساس بجوهر الفكرة :

 

 وحوش القرية …

 استعارة أم واقع ؟

 

ليست عبارة “وحوش القرية” توصيفًا جغرافيًا أو نعتًا لمكان، بل تفكيكٌ لذهنيةٍ عاشت قرونًا في عزلةٍ خانقة، ثم أُطلقت فجأة إلى فضاء المدينة دون أن تُروَّض على التعايش . 

جاؤوا من هوامش الانغلاق إلى قلب عدن، لا 

 من سماحتها وعمقها، بل ليغرسوا في تربتها بذور الشك والكراهية .

 

 في عيونهم، المدينة ليست كيانًا نابضًا بالروح، بل غنيمة تُجزَّأ أو متنفس جميل يصادر أو قلعة تُخضع .

 

 جاءوا فبدّلوا ألوان الأرصفة، ولوّثوا هواء البحر بخطاب مناطقي عفن، حتى انعكست ذهنيتهم على بعض مفاصل الأمن، فأصبح الفرز البشري يجري كما تُفرز البضائع الرديئة من الجيدة، في نسيانٍ تام أن روح عدن لم تعرف يومًا أسوار الدم أو جدران البطون . 

 

هؤلاء ليسوا مجرد أفراد ؛ إنهم تجسيدٌ لظاهرة تحاول استبدال ملامح المدينة بقرية مصغّرة من الخوف والفرز، فيما يظل البحر – شاهدها الأزلي – يردد أن عدن خُلقت لتكون للجميع، أو لا تكون .

 

القضية التي تعرّض لها مأمون العدني الشيباني لم تكن مجرد رفض إداري لبلاغ فقدان جواز سفر، بل كانت صرخة مدوية في وجه العدالة، وإعلانًا صارخًا بأن بطاقة الانتماء الجغرافي قد تجاوزت في وزنها بطاقة الهوية الوطنية في أعين بعض القائمين على أمر المدينة . 

 

كان ذلك المشهد، بكل قسوته، صفعة مدوية لكل من عرف عدن وأحبها، لكل من أدرك أن هذه المدينة كانت ولا تزال بيتًا مفتوحًا للجميع، لا تُقفل أبوابها أمام أحد بسبب خطوط وهمية على خارطة، ولا تُقيد حرية مواطنيها بسلسلة من التعصب الضيق .

 

كان ذلك المشهد ليس مجرد وقعة عابرة، بل صفعة مدوية على وجه كل من يحمل في قلبه حبًّا لعدن، ويدرك أن هذه المدينة لم تُخلق لتكون حكرًا على أحد، بل كانت وما تزال رحبةً تسع الجميع تحت سماء واحده . 

كانت – وما تزال – نبضًا متواصلًا من الانتماء الجامع، حيث لا تُسأل الروح من أين جاءت، بل تُحتضن كما هي، بعمقها وجمالها .

 

كانت إقالة مدير القسم المعني خطوةٌ ضروريةٌ، تحمل في طياتها رمزية المواجهة، وامتصاص غضب الناس، لكنها ايضاً ليست سوى شرارةٍ تضيء دربًا طويلاً نحو الانعتاق . 

 

فالأزمة التي تعصف بعدن ليست نزوة فردية أو حادثة عابرة، بل جذورها تغوص في أعماق ثقافة إقصائية سرَت كسمٍ في أوصال المدينة، تغذت على فوضى السياسة وزيف الوهم، فأصبح نسيجُها الاجتماعي يعاني التمزق، وروحُها التي كانت تردد أغاني الوحدة والسلام باتت تحت وطأة وحوش الصمت المزعج .

 

إن استعادة عدن إلى مجدها الأصيل لا يكون بالهتاف في ساحات الغضب، بل بإعادة صياغة الأمن كمفهومٍ نبيل، لا أداة قمع وتفريق، بل كنسمةٍ تحمل عبير العدالة والمساواة، تخترق عتمة الجهل والتعصب . 

 

وهذا لا يتأتّى إلا بإدارة عدنية خالصة، تشعل شمعة الوعي من جديد، في صدور مجتمع مدني مستنير، وبإعلام يفيض بالحقيقة وينشر النور، وبمدرسة تُخرج أجيالاً منبثقة من رحم الإنسانية، ترفض كل صورة من صور الظلم والتفرقة، وتحتفي بكل لون من ألوان التنوع والإنسانية.

 

في هذه الرؤية الكاملة، تتجلى قوى إنقاذ عدن، تتوهج نورًا يُعيد لمدينتنا الميناء – منارة التعايش والمحبة – بريقها الحقيقي، ويكتب فصولًا جديدة من الوحدة التي لا تُقسم، ومن السلام الذي لا يموت، ومن الكرامة التي لا تُشترى .

 

عدن لا تحتاج لمن يرفع شعارات الدفاع عنها وهو يفرغها من روحها وجوهرها .

 ليست مجرّد اسم يُطبع على لافتات أو تُرفع به الأصوات، بل هي كيان حي ينبض بالابتسامات، ويحتضن الغريب قبل القريب، ويعلّمنا أن الإنسانية أسمى وأعمق من كل انتماء جغرافي ضيق .

 

المعركة الحقيقية لا تدور بين شمالي وجنوبي، غربي وشرقي، بل بين من يرى في عدن وطنًا شاملاً يحتضن الكل، وبين من يحاولون تحويلها إلى حظيرة مغلقة، تحكمها قلة تفرض الإقصاء وتزرع بذور التفرقة .

 

في هذه المواجهة المصيرية، تقف عدن شامخة كالنخلة الباسقة التي تصمد أمام عواصف الزمن، ترفع راية الوحدة والمحبة والسلام، وتكتب بفخر فصولًا جديدة من التاريخ يرويها القلب قبل الجغرافيا .

 

في نهاية الرحلة، تظل عدن ــ بكل مرافئها وأزقتها، وبكل وجوهها التي لا تُحصى ــ أكثر من مجرد مدينة على الخريطة . 

 

هي نبض ينبثق من عمق التاريخ، وشاهد حي على قوة التعايش والحب الذي لا يعرف حدودًا ولا قيودًا . 

 

لا يمكن لـ”وحوش القرية” مهما علا صخبهم، أن يطفئوا ضوء هذه الروح التي ترفض أن تُقيد، أو أن تُقسم، أو أن تُقصى .

 

عدن هي قصة الإنسان حين يتجاوز عنصريته، ويختار أن يحتضن الآخر بغير شروط، هي رسالة السلام في زمن الحروب، وهي الوطن الذي يعرف زائره بعينيه لا بجواز سفره، ويحتفي بحضوره قبل أن يستفسر عن موطنه .

 

ولعل في هذه الحقيقة وحدها يكمن الأمل الذي لا يموت، والنبراس الذي سيعيد عدن إلى حضنها الدافئ، حيث تُكتب فصول جديدة من الوحدة، والكرامة، والحرية .

 

قد يظن “وحوش القرية” أن صخبهم سيطغى على أصوات الموج، لكن البحر الذي علّم عدن الصبر والانفتاح سيظل يردد أغنيته القديمة :

هنا لا مكان للكراهية … 

هنا المدينة التي لم تسأل زائرها يومًا : 

من أين أتيت ؟

كلمات المفتاحية:

0 تعليق

أضف تعليقك

إلى الأعلى