كريم الحنكي … حين يغادر الشعر جسده ويظل صوته فينا

كريم الحنكي … حين يغادر الشعر جسده ويظل صوته فينا

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

 

 

“ هُوَ اليمنُ الصريحُ على لسانِكْ … وقد أســـرى الوفـــــاءُ بِــــهِ بُــــراقاً ”

 

في مساءٍ تتثاقل فيه الغيوم وكأنها تشارك الأرض حزنها، انسحب كريم سالم الحنكي من ضجيج الحياة بصمتٍ يليق بالكبار، تاركاً وراءه فراغاً لا يملؤه إلا صدى قصائده . 

 

لم يكن رحيله عابراً، كما لم تكن حياته عادية ؛ فقد كان شاعراً يرى في القصيدة كائناً حيّاً يتنفس بدم القلوب، وناقداً يجعل من الكلمة أداة للفهم لا للزخرفة، ومترجماً يمارس عبور الثقافات كمن يعبر بين شاطئين يحمل في كلتا يديه ماء الروح . 

 

كان يسير بين الناس وفي يده لغة تُمسك بالذاكرة، وفي الأخرى بصيرة تُمسك بالمستقبل. وحتى بعد أن غاب الجسد، بقي صوته يتردّد في فضاء الثقافة اليمنية والعربية، كما لو أنه يجيب عن سؤال الغياب ببيته الشعري الخالد :

 

 “ هُوَ اليمنُ الصريحُ على لسانِكْ … وقد أســـرى الوفـــــاءُ بِــــهِ بُــــراقاً ”

 

قصيدة تمشي على قدمي رجل

 

كان كريم الحنكي من ذلك الطراز النادر من الشعراء الذين لا يكتفون بأن يسكنوا القصيدة، بل يسمحون لها أن تسكنهم حتى تصير ملامحهم جزءاً من أبياتها .

 إذا جلست إليه، شعرت أن القصيدة قد خلعت تاجها ونزلت من عليائها لتجلس في هيئة رجل حيّ، يتحدث بحميمية، ويبتسم بوقار، ويعاتبك بعينين تلمع فيهما الحكمة والشغف . 

 

في ديوانه “كم الطعنة الآن؟”، لم يكن السؤال مجرد استعارة عابرة، بل خلاصة مسار حياتي ووعي شعري حاد، اختبر الطعنة في واقعها، وتلمّس عمق الجرح في روحه، ثم أعاد صياغة الألم بلغة قادرة على أن تجمع بين قسوة الحقيقة وجمال العبارة .

 

ماء القلب …

في حبر النقد

 

في النقد كما في الشعر، كان كريم الحنكي يكتب بماء قلبه قبل مداد قلمه . 

حين يفتح كتاباً أو يقرأ قصيدة، كان يستدعي معها ذاكرة كاملة من التجارب، وأحلاماً مؤجلة، وهواجس لا تهدأ، ثم يسكبها في نص نقدي يمنح القارئ مرآة جديدة يرى من خلالها ذاته والنص معاً . 

لم يكن النقد عنده معول هدم ولا منصة لإصدار الأحكام، بل جسراً نحو إعادة البناء، وترسيخ الفهم، وتوليد المعنى. ولأنه كان يرى في الناقد شريكاً في الإبداع لا وصياً عليه، فقد استطاع أن يحظى باحترام الشاعر لصدق القراءة، واحترام القارئ لعمق الرؤية، جامعاً بين الحنان الجمالي والدقة الفكرية في معادلة نادراً ما يجيدها أحد .

 

المترجم …

الذي يعبر الجسر مرتين

 

لم تكن الترجمة عند كريم الحنكي مجرد نقل كلمات من لغة إلى أخرى، بل كانت رحلة مزدوجة عبر فضاءات مختلفة من الثقافة والوجدان .

 

 كان يعبر الجسر الأول بحساسية عميقة، يستشعر نبض النص الأصلي، ويحتضن دفقه الشعري أو الفكر النقدي، كأنّه يلمس عن قرب نبض قلب الكاتب .

 

 ثم يعبر الجسر الثاني ليعيد ولادة النص في اللغة العربية، بحسّ متقدّس للغة، متجنّباً الترجمة الآلية الجامدة، ومولّداً نصاً جديداً يحمل روح الأصلي ويلتقي مع روح القارئ العربي .

 كانت لغته العربية، التي تغنّى بها في شعره، هي القارب الذي يحمل النص عبر هذا النهر العميق، فتظلّ الترجمة ليست استيراداً فقط، بل خلقاً وإبداعاً حقيقياً .

 

المثقف …

الذي لم يخن الشارع

 

في أزمنة التوتر والصراعات التي شهدها الجنوب اليمني، اختار كثيرون التحفظ أو الصمت، لكن كريم الحنكي كان من القلائل الذين آمنوا بأن صوت المثقف لا بد أن يكون حاضراً، لا غائباً، في قلب الحراك السلمي .

 

 كان يؤمن بأن المثقف الذي يتخلى عن هموم مجتمعه يفقد مصداقيته وحقه في تمثيل قضايا الناس .

 لذلك، لم يتردد في المشاركة الفاعلة، معبّراً عن قناعاته بثبات ووعي، حتى وإن دفع ثمن ذلك من اعتقالات وحصار . 

لكنه ظل صامداً، محافظاً على توازنه، مجسداً في كلماته وصموده روح المثقف الحيّ، الذي يختار الحوار لا المواجهة، والإقناع لا الإقصاء، وهو كما عبر في إحدى قصائده :

 

“صَوِّبْ رُجُوْمَكَ… واصرخْ في الصَّخَبْ :

 الله أكبر

 

رحيل الجسد … 

وبقاء القصيدة

 

عند الشعراء، لا يموت الجسد موتًا نهائيًا، بل يشرع في رحلة نحو خلود أعمق وأرحب، حيث تتجدّد أرواحهم في نبض الحرف، وفي ضوء الذكرى التي تلازم نبرة الصوت حين نقرأ لهم بصوت عالٍ، يملأ الفضاء بصدى لا ينطفئ .

 رحل جسد كريم الحنكي، لكنه ترك وراءه قصيدة لا تزال تتنفس، تصدح بالحياة، تحرس دروسه، وتغرس القيم التي زرعها في نفوس أجيال من تلاميذه وأصدقائه، فتظل نهراً من الحكمة يتدفق بلا انقطاع . 

 

وداعه ليس نقطة نهاية، بل هو استمرار مستدام في ذاكرة الثقافة والوجدان، حضوره متجدد في كل سطر خطّه، وفي كل همسة تركها للقلوب التي تعشق الكلمة بصدق . 

ولعل أجمل ما نودعه به هو بيتٌ من كلماته، كتبَه قبل أن يدرك أنه كان يخطّ لحظة رحيله، يرسل لنا فيه رسالة أخيرة عبر الزمن :

 

 “ يا سُيُول الشّمال: سيلي جنوبا… واحتوي الأرض فيه، حُبّاً وخصباً "

 

ستائر الزمن …

ودموع القصائد 

 

حين تسدل ستائر الزمن على حياة كريم سالم الحنكي، لا نقف أمام فقدان شخصٍ فقط، بل أمام رحيل صرح من صروح الإبداع والوعي الثقافي، رجلٌ منح الشعر واللغة والحقيقة أبهى معانيها، وأضاء عتمات الفكر بنور فذّ من الحكمة والشفافية . 

 

رحل الجسد، لكن الروح الشعرية التي كان يحكم بها ناصية الكلمات، ستظل تسير فينا كشعلة لا تنطفئ، تذكرنا أن الكلمة ليست صوتاً في فراغ، بل نبض ينبع من عمق الوجود الإنساني .

 

لقد كان الحنكي أكثر من شاعر، وأكثر من ناقد، وأكثر من مترجم؛ كان جسراً بين الأزمنة، وحواراً مستمراً بين الذات والعالم، حاملاً رسالته الإنسانية بصدق وشفافية، دون وجلٍ أو تردد . 

 

في رحيله، نحتفظ بكنز لا يزول : 

قصائد تمشي على الأرض، ونقد ينبع من قلب ينبض بالعدل، وترجمات تحمل شوقاً للقاء الثقافات، ومواقف عزّ فيها الصمت حين اختاره الآخرون .

 

فلنحيَ هذا الإرث، ولنواصل قراءة قصيدته كما لو كانت ميثاق عهد لا ينكسر، ولنحفظ ذكره كما تحفظ الأجيال أسمى قيم الحضور والوفاء . 

 

في رحيل كريم الحنكي، نقرأ درساً في الحياة والرحيل، في الشعر والإنسانية، ونعلم أن الكلمة الصادقة وحدها تبقى أبدية، وتظل أقوى من كل غروب .

 

خاتمة …

 الحنين

 

سلامٌ عليك يا كريم، يوم حملت القصيدة كما تُحمل الأمانة، ويوم جعلت من النقد جسراً للجمال والفهم، ويوم اخترت أن تكون مع الناس لا فوقهم، شريكاً لا متفرجاً . 

 

سلامٌ عليك في الغياب، وسلامٌ على ما زرعته في النفوس من نور لا يخبو، وعلى أثرٍ وضيءٍ لا يندثر . 

 

لقد رحل جسدك، لكن روحك الحيّة، التي حملت همّ الكلمة ووجدانية الإنسان، تركت لنا إرثاً سامياً يجعل الموت نفسه يوقف وقفته احتراماً .

 

 تستمر رحلتك في كل بيت نقرأه، وفي كل نقد نعيد فيه النظر، وفي كل قلبٍ يذكرك، محافظاً على وجودك الخالد بيننا، كمنارة تنير دروبنا في ظلمات الغياب .

كلمات المفتاحية:

0 تعليق

أضف تعليقك

إلى الأعلى