محسن العيني : ضمير الجمهورية ومرآة الفكر والسياسة

محسن العيني : ضمير الجمهورية ومرآة الفكر والسياسة

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

 

في الذاكرة اليمنية، لا يمر أسم محسن العيني مرور العابرين، بل يتجذّر كإحدى العلامات المضيئة التي تأبى أن تبهت مع الزمن.

 

فهو لم يكن مجرد سياسي تقلّد مناصب عليا، ولا مجرد شاهد على أكثر المنعطفات حساسية في تاريخ اليمن الحديث، بل كان حالة متفرّدة لرجل دولة حمل معه ضمير المثقف ورؤية المفكر وسمت الدبلوماسي . 

 

في شخصه التقت نزاهة الموقف برصانة الفكرة، واجتمعت الحكمة السياسية مع العمق الثقافي، فكوّن معادلة نادرة في فضاء عربي اعتاد الفصل بين السلطة والفكر .

 

 ولعل فرادة العيني تكمن في كونه ظلّ دومًا خارج ضوضاء الصراع الضيق، عابرًا فوق الانتماءات الصغيرة نحو أفق وطني رحب، ليغدو رمزًا لما يمكن أن يُسمّى بحق : 

ضمير الدولة وصوت الاعتدال، وذاكرة الجمهورية العاقلة في زمن الاضطراب .

 

في صنعاء عام 1932 أبصر محسن العيني النور، في بلدٍ كان الزمن فيه يبدو متوقفًا عند تخوم العزلة والانغلاق .

اليمن آنذاك كانت تعيش في ظلال القرون، محاصرة بأسوار التقليد وأثقال الجمود، غير أن عين الفتى اليافع كانت ترنو إلى أفقٍ أبعد . 

سرعان ما حملته رحلته إلى القاهرة، قلب الحركة القومية العربية وموئل الأفكار المتوثبة، ثم إلى باريس، حيث الحداثة تفتح أبوابها على مصاريعها .

 

 لم يكن العيني عابرًا في هذين العالمين، بل كان قارئًا نهمًا، ناقدًا بصيرًا، يختزن التجارب ليعيد صياغتها برؤية يمنية متطلعة للنهضة . 

وعندما عاد إلى وطنه، كان قد صاغ لنفسه هويةً مركبة : جمهوريًا صلبًا مؤمنًا بجدوى التغيير، ومثقفًا يرى أن السياسة بلا أخلاق عبء على الأوطان، وأن رجل الدولة الحقيقي هو من يزاوج بين الفكر والعمل، بين الضمير والقرار .

 وهكذا بدأ يتبلور مشروعه الخاص، مشروع رجلٍ لا ينحصر في سلطة، بل يتجاوزها ليكون شاهدًا على عصرٍ بأكمله .

 

عندما انفجر فجر السادس والعشرين من سبتمبر 1962، لم يكن محسن العيني على هامش المشهد، بل في قلبه، يحمل الحلم الجمهوري كمن يحمل قدرًا لا مفر منه .

كان واحدًا من ذلك الجيل الذي أدرك أن اليمن بحاجة إلى ولادة جديدة، فاختار أن يكون عقل الثورة ولسانها، لا مجرد متفرج على مجرياتها . 

 

في الخارج، جسّد العيني صورة اليمن الجديد أمام العالم، مفاوضًا ومدافعًا ومترجمًا لطموحات شعبه في لغة السياسة والدبلوماسية .

 وفي الداخل، كان رجل الدولة الذي يُستدعى في اللحظات الحرجة، حيث تولّى رئاسة الوزراء خمس مرات في ظرفٍ لا يُحسد عليه :

 الحروب الداخلية تتناسل، والتجاذبات الإقليمية تضغط، والمصالح المتعارضة تمزّق جسد الدولة الوليدة . 

وسط كل ذلك، وقف العيني ببرودة أعصاب الحكيم، ومهارة الموازنة بين الأضداد، حاملاً شجرة التوافق في أرضٍ تتنازعها العواصف . 

لقد كان صوته الهادئ في زمن الضجيج، وحكمته الباقية في زمن الانفعال، لذلك خرج من التجارب أكثر احترامًا حتى من خصومه، كأنه أيقونة سياسية نجت من المحنة لتبقى شاهدًا على إمكانية أن تُمارس السلطة بضمير .

 

لم يكن حضور محسن العيني في الخارج مجرد مهمة دبلوماسية، بل كان بمثابة ترجمان لروح اليمن الباحثة عن مكانها بين الأمم .

 

في واشنطن، في باريس، وفي أروقة الأمم المتحدة، كان العيني يجلس لا كموظف سياسي، بل كصوت تاريخ عريق يُطل برصانته على العالم .

 كان يُدرك أن صورة اليمن تتجاوز صخب الانقلابات والحروب، فصاغ لها خطابًا راقيًا يجعلها أقرب إلى وجدان الآخرين : 

بلد يخرج من عزلته ليعلن انتماءه للعصر، بلد يتنفس الجمهورية كحلم جديد .

 لم يكن يجادل خصومه بحدة، بل يُحاصرهم بهدوء منطقه، ويحوّل المواجهة إلى مساحة للتفاهم .

 

 وهكذا غدا الرجل، بلغاته المتعددة وأسلوبه الموزون، أشبه بجسر إنساني وثقافي بين صنعاء والعالم .

 لقد كان بحق ضمير اليمن في المحافل الدولية، ووجهها المشرق الذي جعل حتى أكثر لحظاتها قسوة قابلة لأن تُروى بلغة كريمة تليق بتاريخها .

 

في زمنٍ تحوّلت فيه السياسة إلى سوقٍ للمصالح، وارتبطت المناصب بوهج النفوذ وإغراء الثروة، ظل محسن العيني يمشي عكس التيار، حاملاً ضمير الدولة في قلبه .

 

لم يكن طامحًا إلى سلطة ولا جامعًا للثروات، بل كان مؤمنًا أن شرف رجل الدولة لا يُقاس بما يملك، بل بما يتجرد عنه . 

كان هدوؤه يخفي صلابة موقف، وميله إلى الاعتدال يكشف عمق قناعة راسخة بأن الحق أثمن من المكاسب، وأن الكرامة أسمى من الكرسي .

 لهذا ظلّ احترامه ثابتًا حتى بعد أن غادر المناصب، وكأن حضوره الأخلاقي أقوى من ألق السلطة نفسها .

 لقد عاش نزاهته لا كشعار سياسي، بل كفلسفة وجودية تؤكد أن السياسة يمكن أن تكون أخلاقًا قبل أن تكون صراعًا، وأن رجل الدولة الحقيقي هو الذي يحفظ للدولة ضميرها وسط فوضى المصالح .

 

لم يكن محسن العيني مجرد سياسي يختزل دوره في المناصب، بل كان مثقفًا يعيش بين الفكر والقرار، بين القلم والسلطة، في انسجام نادر .

 

ترك وراءه مذكرات وكتبًا تُقرأ اليوم كما لو كانت نافذة على وجدان اليمن الجمهوري وتحولاته الكبرى، ليس مجرد سرد للأحداث، بل تحليل عميق يربط بين تفاصيل اللحظة وروح التاريخ .

 كان يكتب بعين المؤرخ وبفكر الفيلسوف، يختزن التجربة ليعيد صياغتها رؤيةً شاملة، مؤمنًا أن السياسة بلا فكر تتحول إلى عبث عمياء .

 

 ومن هنا حرص على أن تُخلّد تجربته للأجيال، لتكون بمثابة مرآة يُستقى منها فهم مسار الوطن، وتجربة عقلانيته، وصدق التزامه الوطني . 

وهكذا أصبح العيني بحق مرآة الفكر والسياسة، ومثالًا نادرًا للمثقف الذي يصنع الدولة والفكر في آن واحد، مذكّرًا بأن السياسة الحقيقية تبدأ من ضمير الإنسان وفكره قبل أي سلطة .

 

رحل محسن العيني في 25 أغسطس 2021، لكن حضوره لم يرحل مع جسده، بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من ذاكرة اليمن الحديث .

 

ترك وراءه سيرة عطرة تجمع بين ضمير الدولة ونقاء الفكر، بين نزاهة السياسي وعمق المثقف، لتكون مثالًا حيًا على أن السلطة يمكن أن تُمارس بضمير، وأن الفكر يمكن أن يواكب القرار . 

 

كان طوال حياته صوت الاعتدال، وشاهدًا على الحق في أوقات الضباب السياسي، وذاكرة حيّة تربط الماضي بالحاضر، لتكون مرجعًا للأجيال القادمة .

 

 إرثه لا يُقاس بعدد المناصب التي شغلها، بل بالقيمة المعنوية التي جسّدها : 

النزاهة، التوازن، والوفاء لفكرة الوطن . 

 

وهكذا يظل محسن العيني، في وجدان اليمنيين والعرب، رمزًا لرجل عاش السياسة كواجب وطني، وللمثقف الذي يحوّل فكره إلى رصيد دائم للأمة، وصوتًا خالدًا بين عواصف الزمن .

 

يتبع

كلمات المفتاحية:

0 تعليق

أضف تعليقك

إلى الأعلى