جرائم العدو الصهيوني ... حين يُستهدف قلب الحضارة في صنعاء

جرائم العدو الصهيوني ... حين يُستهدف قلب الحضارة في صنعاء

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

 

لم يكن ما شهدته صنعاء القديمة حدثاً عابراً في دفتر الصراعات، ولا خطأً عسكرياً يمكن تبريره، بل كان طعنة غادرة في قلب الحضارة الإنسانية ومحاولة وحشية لاغتيال ذاكرة مدينةٍ ظلّت شامخة عبر آلاف السنين . 

 

هذه الحاضرة التاريخية، التي تآلفت جدرانها الطينية مع الزمن واحتضنت بين أزقتها قصص حضارات متعاقبة، استيقظت فجأة على مشهد مروّع :

 غبار متطاير، جدران مرتجّة، ومتحف وطني ينزف من نوافذه المحطّمة، تحت وقع العدوان الصهيوني الذي استهدف ليس اليمن وحده، بل الوجدان الإنساني برمّته .

 

ارتجّ الجدران …

 وغبار التاريخ

 

ارتجّت جدران صنعاء القديمة وتناثر غبار بيوتها الطينية المهيبة، في مشهد يلخص فداحة الجريمة التي ارتكبها المعتدي بحق مدينةٍ وذاكرةٍ وحضارةٍ عصيّة على الانكسار . 

 

ولم يقف العدوان عند حدود هذه المدينة التاريخية العريقة، بل طال أيقونة أخرى من أيقونات التراث اليمني : 

المتحف الوطني في دار السعادة، بما يحتويه من آلاف القطع الأثرية النادرة التي تشهد على عمق الهوية اليمنية وتؤكد انتماءها الأصيل إلى الحضارة الإنسانية جمعاء .

 

استهداف يتجاوز …

 الحجر إلى الهوية

 

إن العدوان على صنعاء القديمة والمتحف الوطني لا يمكن اختزاله في كونه مجرد قصف طال مباني أو جدران، بل هو فعل مقصود لاغتيال الهوية وطمس الذاكرة الجمعية لشعب بأكمله .

 

 إنه عدوان يستهدف الروح قبل الحجر، ويعمل على محو سردية حضارية متجذرة في التاريخ الإنساني .

 

لقد اختارت يد العدوان أن تطال مدينةً اعترفت بها البشرية جمعاء حين أدرجتها اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي، باعتبارها موروثاً إنسانياً مشتركاً وذاكرة حيّة تجسد عبقرية الإنسان اليمني وقدرته على البناء والجمال والانسجام مع الزمن والطبيعة . 

 

إن تدمير صنعاء القديمة ليس مجرد خسارة محلية أو وطنية، بل هو جريمة ضد الإنسانية بأسرها، تهدف إلى محو ذاكرة الشعوب وهويتها، وتجريد البشرية من إرث حضاري امتد آلاف السنين، مسجلة بذلك فصلًا مأساويًا في تاريخ الإنسانية .

 

الغارة على مبنى التوجيه المعنوي …

والأرشيف الوطني

 

أدت الغارة الإسرائيلية التي استهدفت مبنى التوجيه المعنوي إلى حريق هائل قضى على الأرشيف الوطني، الذي كان يضم وثائق تاريخية بالغة الأهمية تمتد جذورها إلى الغزو التركي الأول لليمن . 

 

ولم تقتصر الخسارة على الوثائق العسكرية، بل طالت وثائق السياسة والحكم والجيش، وبشكل خاص الوثائق المتعلقة بثورة 26 سبتمبر اليمنية التي تشكل حجر الزاوية في تاريخ الدولة الحديثة .

 

هذه الخسائر ليست مجرد أوراق أو ملفات، بل هي ذاكرة الأمة وسجل حضارتها الوطنية، وحرقها يعد جريمة موجهة ضد التاريخ والهوية الوطنية، تعكس حجم التخطيط الممنهج لاستهداف إرث اليمن التاريخي والسياسي .

 

الأرواح …

المدنية المزهقة

 

ولم تتوقف الخسائر عند تدمير الحجر والوثائق التاريخية، بل امتدت إلى الأرواح البشرية . 

 

فقد أزهقت الغارات الإسرائيلية العديد من الأرواح المدنية البريئة، ضحايا عدوان لم يرحم التاريخ ولا الإنسان . 

وهكذا، أصبح مشهد الدمار مزدوجًا : 

فقد التراث الحضاري والذاكرة الجماعية في آن واحد، وضاعت الأرواح التي كانت جزءًا لا يتجزأ من نسيج المجتمع اليمني، لتتضاعف مأساة المدينة بين الحجر والإنسان .

 

جريمة حرب …

مكتملة الأركان

 

إن ما جرى في صنعاء القديمة والمتحف والارشيف الوطني لا يُعد حادثاً عارضاً في سياق حرب، بل هو جريمة حرب مكتملة الأركان بموجب اتفاقية لاهاي لعام 1954 الخاصة بحماية الممتلكات الثقافية في أوقات النزاع المسلح . 

 

فالقانون الدولي في نصوصه الصريحة لا يترك مجالاً للالتباس :

 استهداف التراث الثقافي ليس مجرد انتهاك، بل هو جريمة ضد الإنسانية تمس ذاكرة الشعوب ووجدانها المشترك، وهي جريمة لا تسقط بالتقادم ولا يمكن تبريرها تحت أي ذريعة عسكرية أو سياسية .

 

الصمت الدولي …

 شراكة غير معلنة

 

أمام هول هذه الجريمة، بدا الموقف الدولي باهتًا، متخاذلاً، وأقرب إلى الصمت المريب .

 فكيف لمدينة أدرجتها اليونسكو ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي، وتحت مظلة الحماية الأممية، أن تُقصف علنًا دون أن تتحرك ضمائر العالم أو تُسمع أصوات الإدانات القاطعة ؟

 

إن هذا الصمت ليس مجرد تقاعس، بل يكاد يرتقي إلى مستوى الشراكة غير المعلنة في الجريمة، إذ يمنح المعتدي شعورًا بالإفلات من العقاب، ويحوّل القوانين الدولية من منظومة لحماية الحضارة الإنسانية إلى شعارات خاوية لا تتجاوز حدود الورق .

 

التزام قانوني …

 وواجب إنساني

 

إن مسؤولية المجتمع الدولي، وفي طليعته الأمم المتحدة واليونسكو، لا يمكن أن تُختزل في بيانات دبلوماسية أو مواقف رمزية؛ فهي ليست ترفًا أخلاقيًا ولا مجاملة إنسانية، بل التزام قانوني وواجب حضاري يفرضه ميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات حماية التراث الإنساني . 

 

وحين يعجز العالم عن حماية مدينةٍ عريقة عمرها آلاف السنين، فإنه لا يترك التراث اليمني وحيدًا فحسب، بل يُفقد منظومة القيم الدولية معناها، ويكشف أن العدالة الدولية لم تعد سوى شعارات جوفاء تستهلكها الخطابات بينما تنهار شواهد الحضارة تحت القصف والعدوان .

 

الحضارة …

 أسمى من القنابل

 

ما لم يستوعبه العدو الصهيوني أن صنعاء القديمة ليست مجرد بيوت طينية ولا جدران حجرية قابلة للهدم، بل هي روح متجذّرة في الوعي الجمعي، وذاكرة حية تجسد استمرارية الإنسان اليمني عبر العصور . 

 

الحضارة ليست أحجارًا تتهاوى تحت القصف، بل هي منظومة قيم وهوية عصيّة على الطمس .

 

لقد واجهت صنعاء عبر قرون الغزاة والكوارث الطبيعية والزلازل والمحن، لكنها ظلت شاخصة بهيبتها، محافظة على ملامحها، شاهدة على قدرة الحضارة على الانتصار على أدوات الفناء . 

وما يجري اليوم ليس سوى فصل جديد في ملحمة الصمود؛ فالحضارة اليمنية ستظل قائمة، فيما يندثر العدوان في هوامش التاريخ .

 

رسالة …

 تحدٍ للإنسانية

 

إن الاعتداء على صنعاء ليس مجرد جريمة ضد اليمن وحده، بل هو رسالة تحدٍ موجهة إلى الإنسانية جمعاء . 

 

سؤال الحضارة يُطرح اليوم بإلحاح : 

أيمكن للقنابل أن تهزم مدينة صاغت بالحجر والروح معًا ذاكرة الدهور الموغلة في القدم ؟ أم أن إرادة الشعوب وذاكرتها الحيّة ستبقى أقوى من كل أدوات العدوان، وأقدر على كتابة المستقبل كما كتبت التاريخ ؟

 

دعوة …

 للتاريخ والانسانية

 

إن حماية صنعاء القديمة والمتحف الوطني ليست قضية محلية تخص اليمن وحده، بل هي أمانة إنسانية تقع على عاتق العالم بأسره .

 فهذه المعالم ليست مجرد شواهد على هوية وطن، بل هي صفحات من كتاب الحضارة الإنسانية المشتركة .

 

ومن يتقاعس اليوم عن حماية تراث اليمن، إنما يفتح الباب أمام انهيار ذاكرة البشرية برمّتها، لأن النار التي طالت صنعاء قد تمتد غداً إلى تراث آخر في أي بقعة من العالم .

 إن التاريخ لا يرحم، وهو يسجل اللحظة بصرامة : 

إما أن ننهض لحماية حضارتنا، أو نتركها فريسة للخراب، فنخسر جميعاً ذاكرتنا المشتركة .

 

صرخة …

صنعاء المدوية

 

صنعاء لا تنادي اليمنيين وحدهم، بل تخاطب الإنسانية جمعاء: “احموا ذاكرتكم قبل أن يتحول التاريخ كله إلى ركام، وقبل أن تفقد الشعوب إرثها الذي صنعته الحضارة على مدى آلاف السنين”.

 

لكِ الله يا صنعاء … فالحضارة أسمى من كل القنابل، والهوية أقوى وأبقى من أي عدوان . 

 

وستظل صنعاء شامخة، محفورة في ذاكرة الإنسان، شاهدة على صمود الحضارة رغم الدمار والخراب الذي ألم بها، ورسالة صمود لكل شعوب العالم بأن الإرث الثقافي لا يُقهر .

كلمات المفتاحية:

0 تعليق

أضف تعليقك

إلى الأعلى