شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
في لحظات التحوّل الكبرى، لا تكتفي الشعوب بالبندقية وحدها، بل تبحث عن صوتٍ يُبلور الوعي، ويُجسّد إرادة التغيير، ويُعيد صياغة الحلم الجمعي في كلماتٍ قادرة على إشعال العزائم قبل إشعال الميادين .
الثورة لا تبدأ من فوهة البندقية فحسب، بل من القصيدة، من البيان الأول، من الكلمة التي تتحوّل إلى شرارة في الضمير الجمعي .
هكذا جاء عبد العزيز المقالح، ليس كشاعر عابر، بل كـ حارسٍ للوعي، ولسانٍ للثورة، ونبضٍ متجسّد في هيئة إنسان .
لم يكن يكتب شعراً للتاريخ الأدبي فقط، بل كان ينحت في ذاكرة الأمة حجارة الوعي والرفض، ويحفر في جدار الاستبداد ثغرةً للنور، حتى لو كلّفه الأمر أن يموت على وجه ذلك الجدار .
لقد كان المقالح أكثر من شاعر، وأكثر من مفكر، وأكثر من مثقف عضوي؛ كان هو الصوت المؤسس للثورة الثقافية الذي أعطى لثورة 26 سبتمبر لغتها الأولى، عندما أطلق للعالم بيانها التاريخي عبر الإذاعة، لتبدأ الجمهورية اليمنية مسيرتها على صوته، كما تبدأ قصيدة كبرى على مطلع خالد .
من القرية …
إلى ساحة الثورة
وُلد عبد العزيز المقالح في أحضان قرية يمنية وادعة، لكنها مثقلة بظلال الفقر وقسوة الحرمان .
في تلك البيئة البسيطة، تشكّلت ملامح وعيه الأول، وتفتّحت عيناه على عالمٍ غير عادل، حيث الجوع يتقاسم الأرغفة القليلة، وحيث القهر يفرض سطوته على تفاصيل الحياة اليومية .
لكن القرية، بما فيها من نقاءٍ ومرارة، من عزلةٍ وجِراح، كانت المدرسة الأولى التي صقلت شخصيته المقاومة، وأمدّته بطاقةٍ روحية لم تنطفئ حتى آخر لحظة من عمره .
لم يكن طفلاً عادياً؛ كان عيناً يقظة تتأمل أبسط المشاهد وتحولها إلى أسئلة كبرى .
كان يراقب الناس في الأسواق، والفلاحين في الحقول، والوجوه المنهكة على الطرقات، ثم يعود ليحمل تلك الصور في قلبه الصغير، حيث تتحوّل مع الوقت إلى بذور شعرية تفيض بالوعي المبكر .
ومن هنا، بدأ مشروع المقالح؛ مشروع شاعر لا يكتفي بالغناء للطبيعة، بل يجعل من كل مشهدٍ يومي مرآةً للظلم القائم، ومصدراً لإيمانٍ عميق بأن التغيير ممكن .
الشعر المبكر :
سلاح الكلمة
قصائد المقالح المبكرة لم تكن محاولاتٍ شعرية عابرة، ولا نزوات لغوية لشابٍ في بداية الطريق، بل كانت بيانات مبكرة للتمرّد، ورسائل سياسية واجتماعية مكتوبة بمداد الوعي، موجّهة إلى شعبٍ كان يبحث عن صوته في عتمة طويلة .
كان يُدرك منذ خطواته الأولى أن القصيدة ليست زينة لغوية، وإنما سلاح ثقيل، قادر على أن يهزّ العروش مثلما تهزّها البنادق، وأن الوعي هو الشرارة التي تُطلق الثورة قبل أن ينفجر البارود .
لقد حملت تلك النصوص المبكرة ملامح مشروعه الكبير : شعرٌ يفضح القهر، يحفّز الجماهير، ويُحوّل اللغة إلى خنجرٍ في صدر الاستبداد .
وهكذا، بدا المقالح منذ بداياته كأنه يولد وفي يده الكلمة، لا ليصف العالم كما هو، بل ليعيد تشكيله كما يجب أن يكون .
دور الريادة …
في ثورة 26 سبتمبر
لم يكن عبد العزيز المقالح مجرّد شاعر يراقب المشهد من بعيد أو يواكب الأحداث بحذر، بل كان أحد العقول المؤسسة للوعي الثوري، وقائداً ثقافياً وفكرياً حمل في كلماته ما عجزت المدافع عن قوله .
في زمنٍ كان الصوت أخطر من الرصاصة، تجرّأ المقالح على أن يكون اللسان الذي ينطق باسم أمة، يترجم آمالها ويُعلن ولادتها الجديدة .
وأعظم دليل على ريادته أن صوته كان أول ما سمعه اليمنيون صبيحة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، حين قرأ بيان الثورة عبر أثير الإذاعة الرسمية، لتكون كلماته المفتاح الذي فتح باب الجمهورية، والإشارة التي بشّرت بولادة عهدٍ جديد .
تلك اللحظة لم تكن مجرد واقعة إعلامية؛ لقد كانت تجسيداً لروح المقالح :
أن الكلمة يمكن أن تُعلن دولة، وأن الصوت قد يصبح بديلاً لمدفعٍ في قصف حصون الاستبداد .
لكن المقالح لم يكتفِ بقراءة البيان، بل واصل معركته بالكلمة، مستخدماً الشعر كـ منشور ثوري متجدّد، يوقظ الجماهير ويشحذ إرادتها .
قصائده لم تكن تُلقى في قاعات مغلقة، بل كانت تُتداول كأهازيج وبيانات مقاومة، تزرع الحرية في النفوس وتؤكد أن الثورة ليست حدثاً عابراً، بل قدرٌ تاريخي طويل النفس .
ومن أبرز ما اختزل فلسفته الثورية بيته الشهير :
“سنظل نحفر في الجدار،
أما فتحنا ثغرة للنور
أو متنا على وجه الجدار .”
في هذه الكلمات تتجسد رؤيته كاملة :
المثابرة حتى اليقين، الإصرار حتى التضحية، والإيمان بأن الحرية لا تُستجدى بل تُنتزع .
الشعر …
كأداة وعي وثورة
لم يكن شعر المقالح زخرفة لفظية أو قصيداً جمالياً، بل كان مشروعاً استراتيجياً للوعي والتحرير .
لقد أدرك أن القصيدة في مجتمعٍ مثقل بالجهل والقمع يمكن أن تكون منشوراً ثورياً أكثر خطورة من بيانٍ سياسي، وأن الكلمة حين تُصاغ بصدقٍ وإبداع تتحوّل إلى وقودٍ لجماهير عطشى للحرية .
• فضح الظلم الاجتماعي والسياسي :
أبياته كانت مرايا صافية لوجه اليمن الموجوع، تكشف الفقر والظلم والقهر في القرى والمدن على حد سواء .
• زرع الأمل والثقة في الثورة :
شعره لم يكن صرخة احتجاج فحسب، بل مصدر إلهام للأمة، يُحفّز على المشاركة في التغيير ويغرس الأمل في القلوب .
• تعزيز الهوية الوطنية :
كلماته ربطت الفرد بالوطن، وجعلت الانتماء الوطني تجربة شعورية عميقة، ترفع الكرامة فوق الاستبداد وتؤكد أن الحرية مسؤولية مشتركة .
بهذه الطريقة، لم يكن المقالح مجرد شاعر للثورة، بل لسانها الثقافي وجهازها العصبي الواعي؛ فمن خلال قصائده شاعت اللغة الثورية قبل أن تُعلن البنادق ولادتها في الميدان، وحين حانت اللحظة التاريخية، أصبح ذلك اللسان الثقافي نفسه الصوت الفعلي للثورة عبر الإذاعة .
المقالح :
ضمير الجمهورية وصوتها الثقافي
بعد انبلاج فجر السادس والعشرين من سبتمبر، لم يكتفِ المقالح بدور الشاعر أو القارئ الأول لبيان الثورة، بل أصبح ضمير الجمهورية الوليدة .
لقد أدرك أنّ الثورة لا تُبنى فقط بالمدافع والدبابات، بل تحتاج إلى ثقافة تحميها، ووعي يغذّيها، وصوتٍ يبقى أعلى من ضجيج السياسة وتقلّباتها .
تحوّل المقالح إلى المؤسّس الأول للخطاب الثقافي للجمهورية :
يكتب عن الحرية باعتبارها قدرًا، وعن الوطن باعتباره مسؤولية جماعية، وعن الإنسان باعتباره الغاية الأسمى لأي مشروع سياسي .
أصبح في الوعي الجمعي اليمني شاهد الثورة وحارسها؛ فقصائده تذكّر الناس بأن سبتمبر ليس مجرد ذكرى، بل روح يجب أن تتجدد في كل جيل .
المقالح …
والبعد الإنساني للثورة
لم يكن المقالح مجرد صوت سياسي أو ثقافي، بل كان ضمير الإنسان في قلب الثورة .
لقد فهم أن الحرية لا تكتمل إلا مع العدالة الاجتماعية، وأن القضية الوطنية بلا بعد إنساني تبقى شعارات تتلاشى مع أول عاصفة سياسية .
في قصائده رسم صورة اليمني البسيط :
الفلاح الجائع، الطفل التائه، المرأة المنكوبة، المواطن المحروم من أبسط حقوقه .
كان الشعر بالنسبة له مرآة المجتمع ومعركة الأخلاق في آن واحد، يجعل من كل بيت رسالة وجدانية تؤكد أن الثورة تحرير للروح الإنسانية من قيود القهر والجور .
الخلاصة :
المقالح إرث الثورة والكلمة
عبد العزيز المقالح ليس مجرد اسم في سجل الثورة اليمنية، بل هو رمز متكامل للوعي الوطني والثقافي والإنساني .
من قريته البسيطة إلى أروقة الإذاعة، ومن أول أبياته إلى قراءة بيان 26 سبتمبر، حمل في صوته وقلمه شغف الشعب وإرادته المتمردة على الظلم .
لقد كان الشعر عنده أداة تحرير، والبيان وسيلة تجسيد للحرية، والوعي الثقافي جسراً بين الماضي المظلم والمستقبل المشرق .
لم يكتب فقط عن الثورة، بل كان الثورة نفسها في فعلها الروحي والفكري. كل كلمة كتبها وكل بيت نثره كان رسالة :
أن الحرية لا تُستجدى، وأن العدالة لا تُحصل إلا بالوعي وبمقاومة الجهل والقهر .
وإذا كانت ثورة 26 سبتمبر قد بدأت بقراءة بيان على الهواء، فإن استمرارها في وجدان الشعب كان ولا يزال مرهوناً بكلمات المقالح، وبصوته الذي يذكّر الأجيال بأن الوطن مسؤولية، والثقافة سلاح، والإنسانية معيار الثورة الحقيقي .
إن إرث المقالح يتجاوز الزمن، فهو ليس شاعر الثورة فحسب، بل شاعر اليمن بكل أجياله، ومعلّم الوطنية والكرامة لكل من يسعى لفهم معنى الحرية .
ومن يقرأ قصائده ويستمع إلى صوته يجد أن الثورة ليست مجرد تاريخ، بل حالة وعي مستمرة، تغذيها الكلمة، وتحميها الروح، وتحييها المثابرة على حفر ثغرة للنور وسط الجدار .
بهذه الكلمات، نؤكد أن عبد العزيز المقالح ظل وسيظل لسان الثورة، وضمير الوطن، وصوت الكلمة الحرة الذي لا يموت .
يتبع
0 تعليق