اخذت عملية السلام في اليمن خلال الفترة الماضية مساراً مضطرباً، واختبرت انتكاسات وتعثراً متكرراً، ولا يقع الجمود الذي دخلته مفاوضات السلام منذ أشهر خارج المألوف. لكن استئناف هذه المفاوضات المعلقة لا يضمن التوصل إلى سلام بالضرورة، فمازالت عملية السلام نفسها تعاني من تعقيدات هيكلية جوهرية وعميقة:
الوضع القائم ليس مهيئاً بعد بالقدر الذي يصبح فيه التفاوض المثمر على السلام ممكناً وسهلاً، و لم يصل بعد إلى إحدى "اللحظات الناضجة"، التي تشير مثلاً إلى أن المفاوضات تصبح أكثر جاذبية وجدوى عندما لا يكون استمرار الصراع ممكنا لأي من أطرافه، وإلى أن نجاح عملية السلام يتطلب ارتفاع منسوب مصالح السلام ومخاطر الحرب على السواء لدى أطراف الصراع، ولا يبدو أن هذا هو الحال، فمصالح السلام ومخاطر عودة الحرب بالنسبة للأطراف المعنية غير متماثلة، ومازالت مواصلة الحرب ممكنة لبعض الأطراف أو حتى أمراً مغرياً بالنسبة لها.
مفاوضات السلام حتى الآن أشبه بمناورة أو لعبة تحكمها الأهداف المتعارضة والتوقعات المتباينة لأصحاب المصلحة الوطنيين وللأطراف الأخرى المعنية بها والمؤثرة عليها، ويسيطر عليها انعدام الثقة والمخاوف العميقة. وبينما تتفاوض حركة الحوثيين بهدف تعزيز سلطتها وضمان بقائها السياسي، وتهدف من التفاوض إلى تحييد السعوديين والإماراتيين ووقف دعمهم لخصومها المحليين كخطوة للاستفراد بهم. وعلى عكس خصومهم يظهر الحوثيون استعدادا للعودة إلى الحرب، وهم في ذلك مدفوعون بثقة تصل حد الغرور بقدراتهم العسكرية، وهذه الثقة أو هذا الغرور تكرس بفعل عوامل عدة من أهم ذلك، ما أبدته السعودية من حرص على السلام الذي فهم أنه اندفاع ومخاوف من معاودة استهدافها، وهو ما جعل الحوثيين يعتقدون أن دخولهم المفاوضات أشبه بفرصة للي ذراع الرياض. وتكرس ذلك الفهم الخاطئ أيضاً بفعل الرد الباهت للدول الغربية على استهدافهم الملاحة في البحر الأحمر، والذي اقتصر على العمليات الدفاعية. لقد اعتبر الحوثيون مخاوف الرياض وضعف الرد الغربي دليلا على قوتهم.
أما الحكومة اليمنية وحلفاؤها فمازالوا يفضلون الحل العسكري، وهم بحكم المجبورين على تأييد المسار السياسي والمفاوضات، ولا يخفي بعض أطراف الشرعية مخاوف من توصل السعودية والجماعة الحوثية إلى اتفاق يُمكِن الجماعة من إحكام سيطرتها على البلاد وينتهي في نفس الوقت بتهميشها. ومازالت الحكومة تبدي رغبتها واستعدادها لمعاودة القتال إلا أن قرار الحرب يظل بيد الرياض ومحكوم برغبتها.
من جهتها، السعودية كطرف إقليمي مهم وقف إلى جانب الحكومة اليمنية ضد التدخلات الإيرانية، لازال موقفها هو الحاسم في الحرب أو في السلام، لكنها تصطدم برغبات متعارضة، ففي حين أن رغبتها في فك الارتباط "بالمستنقع اليمني" بأقل الأضرار ومخاوفها من معاودة الحوثيين استهداف مصالحها، وهو ما يدفعها إلى التفاوض، تظهر مخاوف مناقضة من استغلال الحوثيين لوضعهم في تهديد أمنها القومي مستقبلاً، وهو ما يجعلها حذرة ومترددة بين الحرب والسلام. ولذلك ستظل تبحث عن عوامل تساعدها على ممارسة الضغط على الحوثيين من جهة ومقاومة الضغوط الدولية عليها.
والملف اليمن محكوم أيضاً ويرتبط بالمشهد الجيوسياسي المحيط به، وهذا الارتباط يقيد من حرية وإرادات أطراف الصراع المباشرين من جهة، ويجعله من جهة أخرى عرضة للتأثر بالتقلبات التي تعتري هذا المشهد، ودائما ما تكون عمليات السلام في الحالات التي يكون للصراع أبعاد إقليمية ودولية عرضة للتقلب والتهميش، حيث تعطي الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية الأولوية للأزمات الأكثر إلحاحاً لديها، وهذا ما حدث مع اشتعال الصراع في غزة، فقد أثار استجابة دولية فورية وقوية، وأعاد توجيه الاهتمام والموارد السياسية والدبلوماسية بعيداً عن اليمن، وكان تعليق المفاوضات هو النتيجة. والخطورة أن الأمر لا يتوقف على هذا الصراع، فالمشهد في المنطقة يظل يعاني من توترات مستمرة، وبؤر الصراع الساخنة فيه عديدة، وكل أزمة وكل حركة في هذا المشهد تفرض أعبائها على الملف اليمني.
في ذات السياق، ستكون عملية السلام والتفاوض محكومة بضغوط وتحولات جديدة ناتجة عن التعقيدات المتوقعة في الديناميكات والمواقف الإقليمية والدولية، وبما يجعل طريق السلام أكثر هشاشة وتردداً، فالصراع في غزة جعل الوضع الإقليمي ومواقف وأولويات الأطراف الخارجية على عتبة إعادة التشكيل، وقد يتسبب بتراجع حماسها للسلام ويدفعها إلى إعادة تقييم مصالحها الاستراتيجية ومواقفها من السلام ليصبح أكثر حزماً. فدخول الحوثيين على خط المواجهة مع إسرائيل واستهدافهم للملاحة البحرية والمواجهات التي يخوضونها نتيجة ذلك مع الدول الغربية، وكذلك ما كشفته الهجمات المتبادلة بين إيران وإسرائيل، كل هذه التطورات قد تدفع القوى الإقليمية والغربية إلى إعادة النظر في تقييمها لنوع السلام الممكن مع الجماعة الحوثية، ومن الوارد أن تدخل بعض التعديلات على تصوراتها لهذا السلام لتكون أقل تسامحاً مع الجماعة وأقل استعداداً لتقديم تنازلات كبيرة لها، وأكثر حرصاً على ألا تمنحها المفاوضات أو أي اتفاق سلام فرصة تمكنها من السيطرة على كامل البلاد. وهناك ما يخص السعودية على وجه التحديد، فهي تخوض مفاوضات من أجل عقد اتفاقات أمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبانتظار توقيع اتفاق كهذا ستلجأ إلى تأجيل خيار المفاوضات مع الحوثيين، ومن شأن النجاح في توقيع اتفاقات كهذه أن يضعها في موقف أقوى في مواجهة هؤلاء والتفاوض معهم، وسيكون هذا التفاوض أكثر صعوبة من ذي قبل.
ثانياً. السيناريوهات
لأن عملية السلام في اليمن محكومة وترتبط بالمشهد الجيوسياسي المحيط وحركته، فالتنبؤ بالاتجاهات والسيناريوهات المحتملة للسلام في اليمن يتطلب مراقبة هذا المشهد، والتغيرات المرتبطة به والناتجة عنه.
سيناريو استمرار الجمود
سيستمر الوضع على ما هو عليه من جمود وتعليق للمفاوضات. والشرط الأبرز لاستمرار الوضع الراهن هو بقاء مصادر الإلهاء التي تصرف انظار الإقليم والمجتمع الدولي بعيدا عن الملف اليمني، أي بقاء الظروف الإقليمية والدولية التي أسهمت في الدخول في حالة الجمود الراهنة، وعلى وجه الخصوص الحرب في غزة واستمرار الإشكالات المرتبطة بها كالهجمات الحوثية على الملاحة. إن حدوث تصعيد كبير في الحرب الروسية الأوكرانية عامل آخر سيعمل على استمرار حالة الجمود هذه، فتصعيد كهذا سيمثل ولا شك أولوية لدى المجتمع الدولي ويدفع الملف اليمني أو يحافظ على مكانة منخفضة في قائمة الاهتمام.
هناك ما يساعد على بقاء الوضع الراهن، فحالة الجمود هذه أثبتت حتى الآن أنها غير مؤذية لجميع الأطراف المعنية بالقدر الذي يجعلها حريصة على تحريك عجلة التفاوض. ويرتبط بذلك استمرار الهدنة التي تقلل من شعور أصحاب المصلحة بالحاجة إلى عودة المفاوضات، فمابرحت تعطي نوعاً من الاطمئنان وتوفر شعوراً بالاستقرار، وتعفي من تلك الضغوط التي كانت تتسبب بها الأعمال العسكرية وما يرافقها وينتج عنها من تدهور للأوضاع الإنسانية. يضاف إلى ذلك، غياب الضغوط الكافية من قبل أطراف الصراع، فعلى الرغم مما يبديه الحوثيون من تذمر إلا أنهم وحتى الأسابيع القليلة الماضية لم يمارسوا ضغوطاً مهمة من اجل استئناف المفاوضات، ومع أنهم صعدوا مؤخراً من خطابهم ووجهوا تحذيرات للسعودية والإمارات، إلا أن هذا التصعيد الخطابي لم يكشف عن نتائج. وعلى أساس حرصها على إغلاق ملف الصراع في اليمن، يفترض أن السعودية ترغب في استئناف التفاوض مع الحوثيين، لكنها مع ذلك لم تظهر أي مساع ملموسة ومعلنة في هذا الاتجاه، ويمكن تفسير ذلك بالضغوط التي تمارسها القوى الدولية عليها، أو برغبتها في استخدام تعليق المفاوضات كوسيلة للضغط على الحوثيين، وربما تلعب مفاوضاتها من اجل التوصل إلى اتفاق أمني مع الولايات المتحدة دوراً في البرود الذي أظهرته. وبالنسبة للحكومة الشرعية وحلفائها المحليين فهم يفضلون الحل العسكري ولديهم مخاوف من عملية السلام ومن أن تنتهي إلى تسليم البلاد إلى الحوثيين، وبالتالي فاستمرار تعليق المفاوضات يتفق مع رغبتهم ويصب في مصلحتهم.
ولا يعني استمرار جمود عملية السلام إلا تكريساً لحالة اللاسلم واللاحرب، واستمرارا للكُلف التي تتسبب بها، وإطالة أمد معاناة الشعب اليمني، فهذه الحالة لا تحافظ على استمرار الأزمة الإنسانية فحسب، بل تؤدي أيضاً إلى تفاقمها، وبسببها سيبقي النسيج الاجتماعي والسياسي لليمن متأرجحاً على حافة التفكك، فاستمرار هذا المأزق يعمل على تآكل هذا النسيج ويغذي المزيد من التشرذم السياسي والطائفي والقبلي. وعلى الرغم من استمرار الهدنة وصمودها حتى الآن إلا أن توقف محادثات السلام لوقت طويل لا يضمن بقائها، فغياب أي افق للسلام غالبا ما ينتهي بالعودة إلى العنف، فمع غياب السبل الدبلوماسية تلجأ الجهات الفاعلة على الأرض إلى القوة لتحقيق أهدافها ولإيصال رسائل لتحريك المياه الراكدة.
سيناريو استئناف المفاوضات
ستغادر عملية السلام حالة الجمود وتستأنف المفاوضات المتوقفة. وهذا سيحدث حال تغيرت الظروف التي دفعت عملية السلام إلى حالة الجمود الراهنة، وانحسرت الأعمال العدائية الإقليمية، وعلى رأسها بطبيعة الحال الحرب في غزة والهجمات الحوثية على الملاحة. ويشترط هذا السيناريو أيضاً بقاء مواقف الأطراف المعنية من الحرب والسلام في اليمن على حالها كما كانت قبل أكتوبر 2023. ومع بقاء هذه المواقف على حالها أيضاً، قد تستأنف المفاوضات حال ظهور مخاطر لاستمرار تعليقها، كأن يهدد بانهيار الهدنة وعودة المواجهات المسلحة، فإذا ما شعر المجتمع الدولي أو بالأصح الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى بوجود فرص حقيقية لانهيار الهدنة وعودة الصراع على نحو واسع فقد يدفعها ذلك إلى تغيير موقفها والقبول باستئناف المفاوضات.
وفي هذا السيناريو، قد تستأنف مفاوضات السلام من حيث توقفت وتبني على التفاهمات التي سبق التوصل إليها بين السعوديين والحوثيين، وستمضي بنفس الوتيرة السابقة وتخضع لنفس الديناميكات التي حكمتها قبل توقفها. لكن هناك احتمال ألا تستأنف هذه المفاوضات من المكان الذي توقفت فيه، وألا تمضي بنفس الوتيرة التي كانت عليها في الفترة الماضية. سيحدث ذلك حال حصول تعديلات في مواقف أطراف الصراع، وتعديلات كهذه قد تكون نتيجة للتطورات الحاصلة منذ اشتعال الحرب في غزة وبسببها، كما سبق التوضيح، وقد تكون لأي سبب آخر.
سيناريو الانهيار ومعاودة الصراع
ستنهار عملية السلام تماماً وتعاود الحرب، وهذا سيحدث نتيجة:
وصول أحد طرفي الصراع إلى قناعة بعدم جدوى جهود ومفاوضات السلام في ظل الظروف الراهنة وميزان القوى القائم.عمل عسكري متعمد أو استفزازات أحادية الجانب، فالحوثيون -مثلاً- قد يقدمون على عمل عسكري ضد السعودية والإمارات بدافع الرغبة في الضغط عليهما لتحريك مياه التفاوض الراكدة. ، أو يقومن بذلك تحت ضغوط التوجس من عمل عسكري يحاك ضدهم، وكرروا مؤخرا تأكيدهم على أن تحالفاً عسكرياً امريكياً سعودياً إسرائيلياً إماراتياً يتجهز للعدوان على "اليمن"، ويستشهدون بمناورات عسكرية مشتركة بينهم في قاعدة الظفرة بالإمارات. وقد يدفعهم توجسهم إلى القيام بعمليات عسكرية استباقية أو تحذيرية تستهدف مصالح ومواقع مهمة لخصومها. وهم يهددون من الآن من أن أي مؤامرات امريكية إسرائيلية سعودية إماراتية ضدهم ستنعكس سلباً على السعودية.استهداف الحوثيين البوارج الحربية الغربية والتسبب بخسائر بشرية ومادية كبيرة.
وثمة عوامل تدفع باتجاه هذا السيناريو وتخدمه، كحالة التوجس السائدة بين أطراف الصراع والمخاوف المتبادلة، وتطبيع السعودية مع إسرائيل. وفي حال انهارت عملية السلام وعاد الصراع لأسباب غير مقصودة أو عرضية أو سوء فهم، فالصراع سيستمر لبعض الوقت لتعاود المفاوضات بعد ذلك. أما في حال كان قرار العودة إلى الحرب نتيجة توافق خصوم الجماعة والقوى الدولية الحليفة، فالصراع سينتهي إما إلى إجبار الجماعة الحوثية على طلب أو الموافقة على العودة إلى التفاوض بشروط خصومها، أو ينتهي بهزيمتها وإنهاء انقلابها.
0 تعليق