عدن.. حاضنة التعايش والسلام

عدن.. حاضنة التعايش والسلام

 

 

#تعايش / يحيى الضبيبي

 

عدن، تلك المدينة الساحلية الساحرة التي تتمتع بثقافة وتاريخ غنيين منذ آلاف السنين، شكل موقعها الاستراتيجي الهام جذباً للعديد من الشعوب والثقافات ليتعايشوا بسلام في هذه المدينة الجميلة.

 

في أحضان المدينة تعج الحياة بالنشاطات المختلفة، ولكن الأمر الأكثر أهمية هو التعايش السلمي الذي اشتهر على مر التاريخ بين السكان، وما تجده في هذه المدينة من تنوع ثقافي وديني جعلها مكانًا فريدًا للتعايش بين الثقافات المختلفة.

 

حين نتحدث عن التعايش في مدينة عدن، فإننا نُفتح الباب أمام عالمٍ يتكون من تنوع الثقافات والتقاليد والقصص التي تتشابك فيها الخيوط المتراصة للحياة اليومية، ففي هذه المدينة الرائعة، يعيش الناس بسلام وانسجام، متقبلين الآخر بكل تفاصيله واختلافاته، ما يكسب المدينة رونقًا وتنوعًا فريدًا.

تتميز عدن بتراث ثقافي وتاريخي غني ومُذهل، تضج شوارعها بالزوار لاستكشاف آثارها القديمة والمليئة بالتحف الفنية المعمارية، التي تعكس أصالة تاريخها وتراثها الغني الذي يشد الزوار كجاذبية قوية.

 

على مدى قرون مثّل التعايش في عدن رؤية لمدينة تعمل بكل تفاصيلها على تعزيز السلام والتسامح، وتضمن استمرارية هذا الواقع الجميل لجميع من يعيشون فيها ويزورونها.

 

بدأ التعايش في عدن منذ القدم، حيث شهدت المدينة تواجدًا للعديد من الثقافات والأديان المختلفة يعيشون جنبًا إلى جنب، يمكننا رؤية آثار هذا التنوع في العمارة التقليدية التي تجمع بين العناصر العربية والهندية والأفريقية، بالإضافة إلى المعابد والكنائس والمساجد التي تعكس الأديان المختلفة التي يعتنقها سكان المدينة.

 

على مر العصور، تعايش سكان عدن في سلام واستقرار، لم يشهدوا صراعات قومية أو دينية تهدد وحدتهم وتؤثر سلبًا على حياتهم اليومية رغم التحديات الاقتصادية والسياسية التي واجهت المدينة. 

 

تعايش وتلاحم

 

في قلب مدينة عدن الجميلة، ينسج الناس قصصًا ملهمة عن التعايش والتلاحم. حين تكون في طريقك إلى عدن، لا يمكن أن تتوقع أنك ستشهد مثل هذا التعايش والتنوع في هذه المدينة الجميلة، وبمجرد وصولك إلى مركز المدينة تجد نفسك محاطًا بألوان وثقافات مختلفة.

 

يبدأ أول لقاء لك مع هذا التعايش في سوق عدن القديمة، حيث المباني القديمة التي تحتضن الباعة الذين يبيعون الفواكه والخضروات اللذيذة، ستجد هناك الروائح العطرة والأصوات الصاخبة من المارة تخلق جوًا مليئًا بالحياة، تدفعك للرغبة في التجول بين المتاجر المتنوعة ومتابعة تفاصيل الحياة اليومية للسكان المحليين.

 

في قلب هذه المدينة الساحرة، تتناغم الألوان والأصوات في رقصة متناغمة تعكس جمال التعايش بين مختلف الثقافات والأعراق لمدينة تفوح بالحياة والتنوع، حيث يتلاقى البحر بالبر ويجتمع الشرق مع الغرب.

 

عندما تخطو خطواتك في أزقة القلب القديم لعدن، ستجد نسيمًا من التسامح والتعاون يعبق بالهواء، يجمع شوارعها الضيقة بين الأصالة والحداثة، حيث تتلاشى الحدود بين الثقافات والعادات لتصنع صورة متناغمة واحدة.

 

يجتمع الأهالي بصدق ورقة، ينضحون بالعفوية والابتسامة، وكأنهم أسرة واحدة تتشارك السعادة والحزن. يجلس الجميع على أرائك المقاهي الضيقة، يحتسون قهوتهم العربية الساخنة ويتداولون الأحاديث بكل ود. هنا، ترى مشهداً تذوب فيه الاختلافات وتنساب الروابط الإنسانية بينهم.

 

أجناس شتى 

 

يشير المؤرخون إلى أن عدد سكان عدن في أول إحصاء أجراه هينز بلغ 1289 نسمة، وارتفع في عام 1842 إلى 16454 نسمة، وفي عام 1849م إلى 19024 نسمة، كان عدد اليمنيين منهم 4896، والصوماليين 2896، والهنود 8563، واليهود 1114، والأوروبيين 791، و2452 نسمة من جنسيات مختلفة، وفي سنة 1931 بلغ سكان عدن حوالي 51500 نسمة. 

 

وبعد ذلك تم إجراء تعداد سكاني في عام 1946 بلغ عدد السكان 80516، ليرتفع في تعداد 1955 إلى 138441 نسمة شكل المسلمون النصيب الأكبر منهم بنحو يقدر 126 ألف نسمة، فيما أتى المسيحيون ثانياً بما يُقدر 5600 نسمة، بينما شكل الهندوسيون 4،786 نسمة، واليهود 831 نسمة، والفرس 596 نسمة، وآخرون 480 نسمة لم يذكر المؤرخون انتماءهم.

 

يعزو المؤرخون هذا النمو السكاني إلى عوامل كثيرة منها داخلية تتصل بالهجرة من مناطق الأرياف المحيطة بها، بالإضافة إلى تواجد عدد كبير من الأجناس المختلفة عبر الهجرة الخارجية للعمل في كثير القطاعات الحيوية، ليصل سكان المدينة في تعداد 2004 إلى أكثر من نصف مليون نسمة، أما بحسب الإسقاط السكاني لعام 2015، فقد بلغ عدد سكان عدن 865,000 نسمة. 

 

تشكل هؤلاء السكان من شتى الأجناس، واللغات، واللهجات، والأديان، والثقافات، لذلك يمثل التعايش في عدن أكثر من مجرد تواجد الأفراد في نفس المكان، إذ يعد حقيقة ثابتة في استقرار الحياة التي تؤكد أن التفاعلات والروابط الإنسانية التي تنشأ في مثل هذه البيئات المتعددة الثقافات تشكل قاعدة قوية للعلاقات الإنسانية وبناء المجتمع.

 

انفتاح واحترام

 

تطوف في أرجاء المدنية في رحلة لا تتمنى أن تنتهي، فكل ما تراه تكتشف من خلاله معاني الانفتاح والاحترام المتبادل بين الأفراد والثقافات المختلفة. 

في هذه المدينة التي وصفت بـ "مدينة التعايش والسلام" تتجسد روح التعايش الفريدة في كل زاوية وشارع، تحتضن تنوعًا ثقافيًا واجتماعيًا مدهشًا، يتعايش الناس فيها من خلفيات مختلفة بسلام وتفاهم.

 

وفي محيط الأسواق النابضة بالحياة، يلتقي التجار والزبائن، ويتبادلون الضحكات والأحاديث بكل لغات العالم، تعانق الروائح والأصوات لتخلق سيمفونية مدهشة من التعايش الثقافي.

 

وتشتهر عدن بمأكولاتها المتنوعة واللذيذة، يمكنك تذوق أطباق محلية تقليدية من مختلف الثقافات والتجارب العالمية، تتجاور المطاعم التي تقدم الأكلات العربية والهندية والصينية والإفريقية، وتتشابك النكهات لتخلق تجربة تذوق ممتعة ومتعددة الثقافات.

 

وفي المدارس والجامعات، يتعلم الشباب من مختلف الأعراق والثقافات جنبًا إلى جنب، يتشاركون الأفكار والمعرفة، وينمون سويًا لبناء مستقبل مشرق، إذ يعزز التعايش التعليمي في عدن التفاهم والاحترام بين الأجيال المختلفة.

 

عالم مختلف

 

بعيدًا عن ضوضاء المدينة وتنافر المجتمعات، تجد في عدن أماكن هادئة ومشاهد رائعة تشعرك وكأنك في عالم مختلف تمامًا، هناك تجتمع ثقافات وأصول متنوعة وتعطي ألوانًا مختلفة لهذه المدينة البريئة والساحرة في نفس الوقت.

 

في زحام شوارع عدن، يمكنك رؤية الكثير من الأشخاص من مختلف الأعمار والثقافات وهم يعيشون جنبًا إلى جنب، والعجيب في هذا الأمر هو قدرتهم على التعايش والتعاون في ظل هذا التنوع الهائل، فرغم الاختلافات الثقافية واللغوية، يمكننا رؤية تعاون وتبادل ثقافي بين الناس بشكلٍ مذهل.

 

تلاحظ أثناء جولتك في الأسواق المزدحمة كيف يتعامل الجميع بود واحترام تجاه بعضهم البعض. تجد صاحب المحل اليمني بجوار صاحب المتجر الهندي يساعده في ترتيب بضائعه، ومنظر يثبت أن ثقافتهم المختلفة لا تمنعهم من أن يكونوا جيرانًا وأصدقاء.

 

القبول بالآخر

 

واحدة من أهم القيم التي تعزز التعايش في عدن هي التسامح، إذ يؤمن سكان المدينة بأهمية قبول الآخر واحترام اختلافاته، يسعون جاهدين للحفاظ على السلام واحترام حرية الآخرين في التعبير عن آرائهم وممارسة عقائدهم.. وهذا يؤكد أن التعايش في عدن لم يكن مجرد وجهة سياحية فحسب، بل كان نمط حياة يتجاوز الحدود الجغرافية والعرقية، يمثل فرصة لالتقاء العقول والقلوب في مكان واحد، يتعلم فيه الناس المسامحة والاحترام المتبادل، كما يعد دليلا على روح التسامح والتضامن التي تسود في قلوب سكان مدينة تثبت أن التنوع والتعددية هما مصدر غنى وقوة لكل مجتمع.

 

وفي هذا المشهد المليء بالتنوع، يجد الناس أنفسهم يشاركون في الاحتفال بالعيد، بغض النظر عن خلفيتهم الثقافية أو الدينية، يجتمعون حول المائدة لتناول وجبة مشتركة، يُعَزِّز هذا التفاعل الاحترام والتسامح بين الأفراد.

 

يتسع التعايش في عدن ليشمل أيضا القرى والمدن المجاورة، فعدن تشكل مصدرًا للإلهام للمحافظات المحيطة بها، حيث يتعاون سكان عدن مع الأهالي القادمين من محافظات أخرى، ويشاركون في مبادلة الثقافات والخبرات، ومن خلال هذا التبادل الثقافي، يُصبح التعايش جسرًا يربط بين مختلف المحافظات، ويعزز الفهم والتسامح والاحترام بين الجميع.

 

ومع ذلك، يواجه سكان عدن تحديات مستمرة في سبيل المحافظة على هذا التعايش السلمي والمثالي، فالظروف الاقتصادية الصعبة والصراعات السياسية تشكل عائقاً أمام بعض أبناء المدينة للتعايش بسلام وازدهار.

 

وبصوت متناغم، تعزف أمواج البحر وتتراقص رياح السماء، داعمة لرسالة التعايش والتسامح المنبثقة من أرض عدن الجميلة، تدعو سكانها لتجاوز مصاعب ما خلفته الأزمة الحالية، والعودة إلى أن تكون المدينة في صدارة مدن التعايش والسلام العالمية، كما تدعو سكانها لأن يتشبثون بهذا التنوع الجميل، لتستمر المدينة كدليل حي للتعايش السلمي والمتبادل، في مدينة بجمالها الطبيعي وتجاوبها المجتمعي تتغلغل في قلوب سكانها وترسخ قيم التسامح والتعاون وتجسد روح الانفتاح والتعايش الإنساني، وتعد مثالًا رائعًا ونموذجاً جميلاً للتعايش التاريخي العريق والتنوع الثقافي الذي يعكس تطلعات الإنسانية في الحق في الحياة بسلام وازدهار.

 

المادة منشورة في "منصة تعايش"..

كلمات المفتاحية:

0 تعليق

أضف تعليقك

إلى الأعلى