شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مصطفى بن خالد
في مشهدٍ مروع يكشف عن أبشع صور الوحشية والانحطاط الإنساني في اليومين الماضيين من شهر رمضان شهر الله المعظم شهر الرحمة والإيمان، تحوّل الساحل السوري إلى ساحة لمجزرة دموية مروعة ارتكبتها جماعات طائفية متطرفة، تتلقى دعماً ورعاية من السلطة التركية بقيادة أردوغان.
هذه الفصائل الإرهابية، التي تتخذ من الدماء طريقاً لتحقيق أهدافها، أجتاحت القرى والبلدات الآمنة، محوّلةً إياها إلى ساحات قتل، حيث أنقضت على العائلات من دون رحمة، لتنفيذ عمليات إبادة جماعية بحق الأطفال والنساء والشيوخ، بدمٍ بارد، في جريمة تُضاف إلى سلسلة جرائم التطهير الطائفي التي لا تُغتفر .
هذه المجزرة ليست حادثة عابرة، بل هي بمثابة رسالة من الجحيم تُحرق فيها آمال شعب بأسره.
مشاهد الدماء والدموع التي شاهدناها تعيدنا إلى أبشع الجرائم التي ارتكبها تنظيم داعش في أرض العراق العربي،
حيث تحوّل الساحل العربي السوري إلى مسرحٍ لجرائم حرب لم تقتصر على القتل فقط، بل تجاوزت ذلك إلى محو كل معالم الحياة.
كانت تلك الجماعات الجهادية المتشددة أكثر من مجرد قوى عسكرية، بل أدوات إبادة تعمل على تفكيك النسيج الاجتماعي وتحويل القرى الآمنة إلى مقابر جماعية، تاركة وراءها جرحاً لا يُشفى .
إن هذه المجزرة هي جريمة تُضاف إلى سجل العار الإنساني، وتُرسّخ مشهداً من الإبادة الطائفية، وتُسهم في تشكيل مستقبل مظلم لسوريا العربية، حيث قد تصبح الأرض السورية مسرحاً مفتوحاً للتطهير العرقي، وتُهدّد بتقسيم البلاد إلى جزر متناثرة تغذيها طائفية مشوهة ووحشية بلا حدود .
لم يكن في طريقهم سوى مدنيين عُزّل، أطفالٌ انتُزعوا من أحضان أمهاتهم برصاص الغدر، ونساءٌ قُتلن بوحشية، وشيوخٌ سقطوا دون أن يجدوا من يحميهم، في جريمة إبادة ممنهجة تُعيد إلى الأذهان أكثر الفصول ظلاماً في التاريخ .
هذه المذبحة ليست مجرد حلقة جديدة في مسلسل الدم السوري، بل هي وصمة عارٍ على جبين العالم، الذي يكتفي بالمشاهدة بينما تُرتكب الفظائع أمام عينيه دون أي رادع .
مجزرة عند الفجر:
هجوم دموي بلا رحمة
مع انبلاج أول خيوط الفجر، تسللت موجات الموت إلى القرى الساحلية في ريف اللاذقية، حيث أقتحمت مجموعات مسلحة متشددة المنازل الآمنة، محوّلةً هدوء الليل إلى جحيم مشتعل .
بطائرات مروحية وأسلحة ثقيلة ومتوسطة، فتح المسلحون نيران حقدهم على كل ما يتحرك، ليبدأ فصل جديد من القتل الجماعي الممنهج، تغذّيه عقيدة طائفية بغيضة لا تعرف للرحمة معنى .
شهادات الناجين تروي فظائع تفوق الخيال:
عائلات أُبيدت بالكامل في ساحات منازلها، أطفال انتُزعوا من أحضان أمهاتهم ليُسكتهم الرصاص للأبد، ونساء ذُبحن بدمٍ بارد أمام أعين ذويهن، في مشهد أعاد للأذهان أحلك فصول المجازر الطائفية التي لطالما دفع الأبرياء ثمنها .
لم يكن الهجوم مجرد عملية عسكرية، بل كان عملية إبادة محسوبة بدقة، أستهدفت إجتثاث مكوّن بأكمله، في تكرار لسيناريوهات التطهير العرقي التي لطخت صفحات التاريخ بالدماء .
ساحات القرى تحوّلت إلى مقابر مفتوحة، والطرقات امتلأت بجثث الأبرياء، في جريمة تجاوزت حدود الحرب إلى همجية إبادة لا يبررها سوى الصمت الدولي المتواطئ .
شهادة من قلب المجزرة :
صوت الناجين وسط أهوال الموت
بصوت مرتجف ونظرات تحمل فزعاً لا تمحوه الأيام، تروي أم حسن، إحدى الناجيات من المجزرة، لحظات الرعب التي عاشتها قريتها تحت نيران القتلة:
“مع حلول الفجر، دوّت صرخات النساء والأطفال في كل مكان، كانت أصواتهم تتداخل مع زخات الرصاص كأنها سيمفونية للموت" .
لم يكن أمامي سوى الاختباء، فاحتضنت أطفالي وانكمشت تحت السرير، أملاً في معجزة تنقذنا.
من بين شقوق الخشب، رأيت رجالاً مدججين بالسلاح يقتحمون منزل جاري، لم أسمع سوى أصوات الرصاص تتبعها صرخات مكتومة، واحدة تلو الأخرى، حتى خيّم الصمت الموحش.
"لم يميزوا بين شيخٍ أو طفل، بين أمٍّ أو رضيعة.. كانوا يسألون عن الهوية الدينية، وإن لم تعجبهم الإجابة، كانت الطلقات هي الرد الوحيد".
هذه ليست مجرد شهادة ناجٍ، بل هي صرخة إنسانية يجب أن تهزّ الضمير العالمي، ودليل دامغ على جريمة لا يمكن أن تُطمس بصمت المتواطئين .
الهوية الطائفية.. وقود الموت وسلاح الخراب
لم يكن هذا الهجوم مجرد فوضى عابرة أو تصعيداً عشوائياً، بل كان حلقة أخرى في مخطط مدروس بعناية، تُستخدم فيه الهوية الطائفية كسلاح لإشعال نيران الكراهية بين العرب وإعادة رسم الخرائط بالدم .
أستهدفت الجماعات المسلحة مكونات بعينها من المجتمع الساحلي، تحت ذرائع انتقامية كاذبة، بينما كان الهدف الحقيقي أعمق وأخطر:
إنه تفريغ الأرض من سكانها الأصليين، وفرض معادلات طائفية جديدة قائمة على الإقصاء والقهر والقتل الجماعي.
إنها ليست مجرد مجزرة، ونهب البيوت والممتلكات، بل سياسة تطهير عرقي تتكرر بصمت عالمي، حيث يُستخدم الدين والهوية كأدوات لتبرير الإبادة.
هنا، لا تُقاس حياة الإنسان إلا بانتمائه، ولا يُحكم عليه إلا بناءً على أسمه وطائفته، في معادلة وحشية لا تُفضي إلا إلى مزيد من الدماء والانقسامات التي تمزق النسيج الاجتماعي لسوريا، وتغرق المنطقة في دوامة من العنف لا نهاية لها .
الترك في قفص الاتهام:
دعم معلن لجماعات الموت
لا يمكن النظر إلى هذا التصعيد الدموي بمعزل عن الأيادي التي تحرّكه من خلف الستار، فكل الدلائل تشير إلى أن ما جرى لم يكن مجرد إجتياح عشوائي، بل عملية منظمة تحظى بدعم إقليمي واضح .
التقارير الميدانية والاستخباراتية تكشف عن دور أنقرة المحوري في تقديم التسهيلات اللوجستية والتمويلية لهذه الجماعات المتطرفة، بدءاً من فتح الممرات الآمنة لتحركاتها، وصولاً إلى تزويدها بالسلاح والغطاء السياسي.
إن هذا الدعم لم يعد خافياً على أحد، فإدارة أردوغان، التي لطالما إستخدمت الفصائل المسلحة كأدوات لتنفيذ أجنداتها في سوريا، يتحمل اليوم مسؤولية مباشرة عن الجرائم المرتكبة بحق المدنيين .
هذه ليست مجرد اتهامات، بل حقائق موثّقة تضع الحكومة التركية الحالية أمام المساءلة الأخلاقية والقانونية، وتجعلها شريكاً رئيسياً في الجريمة، وليس مجرد داعم من خلف الكواليس .
أردوغان.. مقامرة خطيرة تهدد تركيا من الداخل
في مقامرة سياسية خطيرة، يواصل أردوغان وإدارته ذات الخلفية الإخوانية، سياسة اللعب بالنار، متجاهلين المعطيات الإستراتيجية التي تحيط بهم. فبينما يشجّع الجماعات المتطرفة على ارتكاب جرائم الإبادة بحق العلويين في سوريا، يبدو أنه ينسى – أو يتناسى – أن تركيا نفسها تحتضن ما يقرب من ثلاثة وعشرين مليون علوي، يشكلون جزءاً أساسياً من نسيجها الاجتماعي.
هذه الأفعال الطائشة، التي تبدو وكأنها صدى لخطاب التطرف والتمييز، قد ترتد عليه في الداخل التركي، لتفتح باباً جديداً من الأزمات التي قد تعصف باستقرار بلاده.
إن سياسة أردوغان القائمة على تأجيج الصراعات الطائفية خارج حدوده لا تهدد فقط وحدة سوريا، بل تضع تركيا نفسها على حافة اضطرابات داخلية لا تقل خطورة عن التحديات التي تواجهها مع القضية الكردية.
فكيف يمكن لنظامٍ يزرع الفتنة ويغذي الانقسامات في الخارج أن يتوقع استقراراً في الداخل؟ وهل يدرك أردوغان أن هذه الحسابات الخاطئة قد تشعل صراعاً داخلياً يضعف تركيا من الداخل قبل أن يحقق أي مكاسب في الخارج؟
ما يجري اليوم ليس مجرد مغامرة سياسية، بل مقامرة خاسرة، قد تجعل أردوغان يواجه قريباً نتائج قراراته الكارثية، حين يجد أن أزمات الداخل التركي باتت أكثر خطورة من أي معركة يخوضها خارج حدوده.
المجتمع الدولي.. شريك متواطئ بصمته المخزي
في قلب هذا الجحيم الدموي، يقف العالم متفرجاً، صامتاً كأن المذابح باتت مشهداً مألوفاً في نشرات الأخبار، وكأن الدم السوري فقد قيمته في معادلات السياسة والمصالح .
لم يصدر عن مجلس الأمن سوى بيانات جوفاء، ولم تُسمع سوى إدانات خجولة من العواصم الكبرى، فيما اكتفت المنظمات الحقوقية بلعب دور “الموثق”، تُحصي أعداد آلاف القتلى كما لو كانت تسجل بيانات باردة، دون أن تتحرك خطوة واحدة نحو حماية الأبرياء من المجازر التي تلتهم القرى واحدة تلو الأخرى .
هذا الصمت ليس مجرد تقاعس، بل هو تواطؤ مكشوف يجعل المجتمع الدولي شريكاً غير مباشر في هذه الجرائم.
فحين يُترك القاتل ليعيث في الأرض فساداً دون رادع، وحين تُباع المبادئ الإنسانية في سوق المصالح السياسية، تصبح الشرعية الدولية مجرد وهم، والعدالة مجرد شعار أجوف لا يساوي الحبر الذي كُتب به.
الصمت المخزي.. تواطؤ يرسّخ دوامة العنف
ليس هذا الصمت الدولي مجرد غياب للمواقف، بل هو ضوء أخضر يمنح القتلة مزيداً من الجرأة للاستمرار في جرائمهم دون أدنى خوف من العقاب.
حين يختفي الرادع، تصبح المذابح سياسة، والإرهاب أداة لإعادة رسم الخرائط بالدم، بينما يتحول المجتمع الدولي إلى شاهدٍ متواطئ، يراقب من بعيد دون أن يحرّك ساكناً .
إن هذا التخاذل يمنح الجماعات المتطرفة مساحة أوسع لتنفيذ أجنداتها الإجرامية، ويؤكد أن غياب المحاسبة ليس مجرد إهمال، بل هو شراكة غير مباشرة في تأجيج الصراع وإدامة دوامة العنف التي تحوّل سوريا العربية إلى بلد مقسم وساحة مفتوحة للمجازر، يدفع ثمنها العرب، والأبرياء والمستضعفين (المدنيين) من الشعب السوري المكلوم .
ما العمل؟ خطوات لا تحتمل التأجيل
لم يعد الصمت خياراً، ولم يعد التخاذل مقبولاً.
أمام هذه الجرائم الوحشية، لا بد من تحرك عاجل وفعّال لإنقاذ ما تبقى من الأبرياء، ووقف نزيف الدم المستمر من خلال :
•تحقيق دولي مستقل :
لا يمكن السماح لهذه المجازر بأن تُطوى دون محاسبة.
يجب تشكيل لجنة تحقيق دولية نزيهة، تكشف الحقائق، وتفضح المتورطين، وتقدّم مرتكبي هذه الجرائم وداعميهم إلى العدالة، ليكونوا عبرة لكل من يظن أن الدماء يمكن أن تُزهق دون حساب .
•وقف التمويل والدعم للجماعات المتطرفة:
لا يمكن القضاء على الإرهاب ما دامت بعض الدول تمنحه المال والسلاح والغطاء السياسي .
على المجتمع الدولي أن يتحرّك بجدية لفرض عقوبات مشددة على أي جهة توفر الدعم لهذه التنظيمات، فالتغاضي عن الممولين هو تواطؤ مع القتلة .
•حماية المدنيين فوراً :
لا يمكن ترك القرى والبلدات المستهدفة تحت رحمة المجرمين.
يجب فرض إجراءات دولية عاجلة لحماية
ختاماً.. إلى متى؟
ما حدث في الساحل السوري ليس مجرد حادث عابر في سجل التاريخ، بل هو فصلاً قاتماً في رواية التطهير الطائفي المدمر الذي يواصل تمزيق النسيج الاجتماعي لسوريا العربية .
هذه المجزرة، التي لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، هي نتاج سياسة مدمرة هدفها الرئيسي ليس فقط قتل الأرواح، بل محو الهوية العربية وتفكيك المجتمعات التي لطالما تعايشت بسلام .
إن غياب التحرك الدولي الفعّال، والتواطؤ غير المعلن مع القتلة، يعني أننا جميعاً ننتظر مجازر أخرى .
وفي كل لحظة يتأخر فيها العالم عن إتخاذ خطوة حاسمة، يتعمق جرح هذا البلد المنهك، وتبقى أسئلة القتل والتشريد بلا إجابات .
إلى متى سيظل الدم السوري رخيصاً في أعين العالم؟ إلى متى ستظل المذابح تُرتكب دون رادع، وصرخات الأبرياء تُكمم في صمت مريب؟
اليوم، لم يعد الأمر مجرد محنة لشعبٍ مستضعف، بل هو إختبار ضمير البشرية جمعاء .
فالقتل الذي يحدث الآن في سوريا هو إختبار لما إذا كانت العروبة والإنسانية ستنهض لحماية الأبرياء، أم أن التاريخ سيظل يكرر نفسه في فصول من العنف والتدمير .
0 Comment