شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
في منعطفات التاريخ، لا تُقاس الأدوار بعلو الصوت، بل بثقل الموقف وصدق البذل .
فكم من رجالٍ صنعوا الفارق في اللحظة الفارقة، ثم مضوا بصمتٍ، تاركين خلفهم مواقف لا تُنسى، وآثاراً لا تُمحى .
وفي السردية اليمنية الحديثة، حيث تختلط البطولات بالحسابات، وتُشوّه النيات تحت ضغط المصالح، يبرز أسم علي سالم البيض بوصفه أحد القلائل الذين لم تلتقطهم عدسة الإنصاف، رغم أنه كان من مهندسي الحلم الأكبر :
الوحدة اليمنية .
رجلٌ لم يسعَ لكرسي، بل لمشروع .
لم يتكئ على حزبٍ أو إعلام، بل على قناعةٍ عميقة بأن الأوطان لا تُبنى بالحدود، بل بالقلوب .
رئيسٌ تحوّل طوعاً إلى نائب، لا ضعفاً، بل لأن في قلبه وطناً يتجاوز الألقاب .
حمل الجنوب في عقله والكل في ضميره، وذهب إلى طاولة الوحدة بيدٍ مفتوحة، لا بورقة شروط .
إنه علي سالم البيض، ذلك السياسي الجسور الذي أدرك أن لحظة اللقاء بين الشطرين ليست صفقة سياسية، بل لحظة ميلاد أمة .
ومع أنه دفع ثمن ذلك الحلم غالياً، من سلطته، ومكانته، وحتى غربته، إلا أنه ظل وفياً للفكرة، لم يخنها بتصريح، ولم يساوم عليها بموقف .
واليوم، إذ تزداد تعقيدات المشهد، يعود أسمه للواجهة، لا كذكرى باهتة، بل كمرآة تُعيد إلى الأذهان صورة رجلٍ كانت وحدته موقفاً، ونضاله مشروعاً، وتاريخه صفحةً ناصعة في كتاب اليمن الكبير .
من حضرموت إلى قلب الثورة
وُلد علي سالم البيض في مدينة حضرموت عام 1939، في زمنٍ كانت فيه اليمن الجنوبية تستيقظ على حلم الخلاص من الاستعمار البريطاني .
التحق مبكراً بركب النضال الوطني، وكان من مؤسسي الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن، الحامل السياسي للثورة ضد الاستعمار. شارك في ثورة 14 أكتوبر 1963، وبرز لاحقاً كأحد قادة “الذئاب الحمر”، الفصيل الذي حمل على عاتقه مسؤولية تحرير الأرض وبناء الدولة .
تدرج في المناصب، حتى تولى أول حقيبة لوزارة الدفاع بعد الاستقلال في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وهو منصب لم يكن شرفياً بقدر ما كان اختباراً لقدرته على الموازنة بين مقتضيات التحرير ومتطلبات التأسيس .
ومنذ ذلك الحين، عرفه رفاقه بأنه رجل دولة لا رجل سلطة، يقدّم المشروع على المكاسب، ويختار الصبر على الصخب .
صانع الوحدة الصامت
حين إقترب موعد الحلم اليمني الكبير - الوحدة – كان البيض يشغل منصب الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، وهو الموقع السياسي الأعلى في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية .
وقد قاد بنفسه مفاوضات الوحدة مع الرئيس علي عبدالله صالح، مدفوعاً لا بوهم اللحظة، بل بإيمانٍ راسخ أن إستقرار اليمن لا يمكن أن يتحقق إلا بتوحيد كيانه الجغرافي والسياسي .
في 22 مايو 1990، تحقق الحلم، ورفع العلم الجمهوري الموحّد في عدن وصنعاء، وجلس علي سالم البيض إلى جانب صالح في مشهد وطني استثنائي .
لكنه، بخلاف من يُقاتلون اليوم من أجل ترتيب الأسماء على الورق، تنازل طوعاً عن موقع الرئاسة، وقبل بمنصب نائب الرئيس، ليقول للعالم :
“كل شيء يهون من أجل الوحدة اليمنية.”
كان ذلك الموقف قمة في النُبل السياسي .
لم يساوم، لم يطالب بالمقايضة، ولم يعطّل الطريق من أجل الامتيازات .
بل رأى أن الوحدة هي تتويج لحلم شعب، وعلينا أن نذوب فيها لا أن نتنازع عليها .
عاصفة 94..
وانكسار الحلم
غير أن أحلام الكبار كثيراً ما تتعثر في مستنقعات الصغار .
فالوحدة التي بُنيت على التوافق، سرعان ما بدأت تتآكل من الداخل .
التهميش، والفساد، ومحاولات التفرد بالقرار السياسي، كلها قادت إلى صراعٍ خفي سرعان ما تفجّر في صيف 1994 إلى حربٍ مفتوحة بين شريكي الوحدة .
خرج علي سالم البيض من السلطة إلى المنفى، يحمل على كتفيه جراح التجربة، ومرارة الخذلان .
لكنه لم يتحوّل إلى خصمٍ للوطن .
لم يتحدث بخطاب عدائي، ولم يُسجّل عليه أي تحريض ضد اليمن .
بل بقي، رغم إختلاف المراحل والمواقف، مخلصاً لفكرة الدولة التي آمن بها، ومؤمناً بأن ما حدث لم يكن فشلاً للوحدة، بل خيانة لها .
منفى بلا ضجيج..
ورجل بلا إعلام
على مدى أكثر من عقدين، غاب البيض عن المشهد السياسي، وعاش في صمتٍ بعيداً عن الأضواء، بلا حزبٍ ينصره، ولا إعلامٍ يُروّج لرؤاه .
لكنه ظل حاضراً في ذاكرة منصفين قلائل، يروون قصته بعيداً عن تشويهات الخصوم، ويستحضرون صورته كواحدٍ من رجالات التاريخ الذين لم يخذلوا أوطانهم .
لقد كان يمكنه – كغيره – أن يرفع شعار الانفصال من البداية، أو أن يتاجر بالقضية ليعود للسلطة من نافذة جديدة .
لكنه لم يفعل .
لأنه لم يكن يوماً رجل شعارات، بل رجل مواقف .
البيعة المتأخرة للمنصفين
اليوم، وبينما تتقاذف اليمن عواصف التمزق، ويبحث الناس عن رموز تلهمهم الثقة والصدق، تعود سيرة علي سالم البيض لتقف في مكانها الصحيح .
لا لتقديس الرجل، بل لإنصاف الدور .
فالرجل الذي تنازل عن رئاسة دولة كاملة من أجل وحدة وطن، لا يجوز أن يُختصر في لحظة خلاف، أو أن يُتهم بتمزيق حلم كان هو أحد أبرز من نسجه بخيوط نضاله .
فليُكتب التاريخ كما يشاء، لكن الحقيقة تبقى :
أن البيض لم يكن رجلاً عابراً، بل مهندس مرحلة، وقائد حلم، وسياسي لم تغلبه المكائد .
واليمن، التي تفتقد اليوم القادة الصادقين، بحاجة ماسة إلى أن تعيد قراءة سيرة هذا الرجل، لا لتعود به إلى السلطة، بل لتستلهم من حكمته وضوح الرؤية ونقاء النية .
الخلاصة :
علي سالم البيض ليس مجرد سطر في كتب التاريخ، بل روحٌ حيّة من ذاكرة وطنٍ أراد أن يُولد من جديد، فكان من قابليه الكبار .
هو ليس مجرد سياسي، بل تجسيدٌ لفكرة الدولة حين تُبنى بالعقل لا بالغرائز، وبالحلم لا بالمصلحة .
لم يكن صوته الأعلى، لكنه كان الأصدق .
لم يصرخ في الميادين، لكنه كتب مواقفه في صمت الرجال الكبار .
تنازل عن مجده ليمنح وطنه فرصة اللقاء، وخرج من السلطة لا لأنه خسر، بل لأنه انتصر لقيمه .
دفع ثمن الوفاء للحلم من رصيده السياسي، ومن عمره في المنافي، لكنه لم ينكسر، ولم يبتذل القضية، ولم يُبدل موقفه .
ظل كما هو :
رجلٌ حمل على عاتقه مشروع الوحدة، وواجه العاصفة وحده، وخرج منها أكثر نقاءً .
وفي زمنٍ تضيع فيه المعايير، وتُباع فيه المواقف لمن يدفع أكثر، يبقى علي سالم البيض علامة فارقة في ضمير اليمن السياسي :
رجلٌ لم يأخذ من الوطن شيئاً، لكنه أعطاه كل شيء .
وسيأتي يومٌ يُنصف فيه التاريخ رجاله، ويضع على كتف هذا الاسم ما يستحقه من التقدير والإجلال .
0 Comment