شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
في لحظةٍ سياسية تُشبه مفترقات التاريخ الكبرى، حطّت طائرة وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان، يرافقه رئيس هيئة الأركان، على مدرج مطار طهران .
لم تكن زيارة اعتيادية، ولا بروتوكولاً دبلوماسياً عابراً؛ بل مشهد ضاجّ بالرمزية، يلخّص تحوّلات إقليمية عميقة تُصاغ بهدوء خلف الكواليس .
“الخصم اللدود” بالأمس، بات وجهة للحوار العسكري اليوم .
خطوة جريئة تُعيد خلط أوراق الخليج، وتطرح سؤالاً ملحّاً :
هل تسعى الرياض لتأمين موقعها خارج دائرة النار، في ظل قرع طبول مواجهة كبرى؟
أم أن ما يدور خلف الأبواب المغلقة هو نواة تفاهمات أمنية غير معلنة، تُمهّد لمعادلة جديدة في الشرق الأوسط، يكون فيها الاشتباك خياراً مؤجلاً، لا قدراً محتوماً .
الأسئلة كثيرة، والرسائل أكثر، أما التوقيت…
فليس بريئاً البته .
بين التحول والتخوف :
لماذا الآن؟
زيارة بهذا الثقل العسكري في هذا التوقيت الدقيق ليست مجرد استمرار لمسار المصالحة الذي بدأ في بكين برعاية صينية عام 2023، بل يبدو أنها تتجاوز الدبلوماسية الكلاسيكية نحو تفاهمات أمنية – استراتيجية، قد تُشكّل درعاً سعودياً في وجه عاصفة محتملة .
التصعيد الأمريكي – الإسرائيلي ضد إيران يتصاعد، وسط مؤشرات على أن الصدام بات مسألة وقت لا أكثر .
فبعد تعثّر مسار المفاوضات النووية، وتصاعد لهجة التهديد تجاه برنامج إيران الصاروخي، بات الخليج في مرمى الاحتمالات الكبرى .
في هذا السياق، يتحرك السعوديين بواقعية سياسية مذهلة :
"لن نكون ساحة حرب لأحد”.
المنشآت في مرمى الرد :
جغرافيا الخطر
لا يحتاج صانع القرار في الرياض إلى خرائط عسكرية معقدة ليُدرك حجم التهديد .
فالجغرافيا وحدها كاشفة، ناطقة، ومقلقة .
ففي حال اندلاع حرب شاملة في المنطقة، يقف السعوديين على حافة نار يمكن أن تشتعل في أي لحظة، ليس بسبب ضعف الاستعدادات، بل بسبب موقعهم الحرج وسط إقليم ملتهب .
• محطات تحلية المياه، التي تشكل شريان الحياة للعاصمة الرياض والمنطقة الشرقية، تقع على مدى الصواريخ الإيرانية، دون أن تفصلها تضاريس حامية أو مسافات آمنة .
• منشآت أرامكو النفطية العملاقة، من بقيق إلى الجبيل، هي أهداف ثابتة لا تتحرك .
• ضربة واحدة، كما حدث في 2019، قد تعيد سيناريو شلل الطاقة خلال ساعات، في قلب أكبر اقتصاد نفطي في العالم .
• المدن الشرقية الكبرى كالدمام، الخبر، والأحساء، تقف على الساحل مكشوفة .
• لا جبال تحميها، ولا مسافات تخفف من وقع النيران المحتملة القادمة من الضفة الأخرى للخليج العربي .
إنها جغرافيا مكشوفة، تتحدث بلغة الخطر، وتضع المنشآت الحيوية في مرمى مباشر لأي رد عسكري .
ووسط هذا الواقع، يصبح التفكير في هندسة أمنية جديدة واستراتيجيات حماية مبتكرة ليس زائد عن الحاجة، بل ضرورة وجودية .
من هنا، لا يبدو مستغرباً أن تحمل الزيارة بين طياتها رسائل طمأنة متبادلة :
السعوديون لا يريدون أن يُساقوا إلى أتون صراع لا يعنيهم، ولا يرون في اشتعاله مكسباً سياسياً أو استراتيجياً .
فالسعوديون، الذين يقرؤون التحولات الإقليمية بعين واعية، يُدركون أن الحرب اليوم لا تُكسب، وأن التورط في مواجهة مفتوحة يعني تعريض أمنهم القومي، ومنشآتهم الحيوية، واستقرارهم الداخلي لخطر داهم .
إنها دبلوماسية اللحظة الحرجة، ورسائلها واضحة :
السعوديون يريدون أن يبقوا خارج دائرة النار
ما وراء الكواليس :
تفاهمات غير معلنة؟
زيارة بهذا الثقل السياسي والعسكري لا تُختزل في الصور التذكارية أو التصريحات الدبلوماسية .
فالكواليس تحمل غالباً ما تعجز الميكروفونات عن قوله .
من المرجّح أن اللقاءات شهدت نقاشات معمقة حول خطوط حمراء وتفاهمات غير معلنة، ترسم ملامح مرحلة دقيقة تمر بها المنطقة :
• تحييد السعوديين عن أي رد إيراني محتمل، في حال أقدمت واشنطن أو تل أبيب على توجيه ضربة عسكرية .
• تعهدات إيرانية ضمنية بعدم استهداف الأراضي السعودية أو منشآتها الحيوية، مقابل ضمانات من قبل السعوديين بعدم السماح بانطلاق أي عمل عسكري ضد طهران من أراضيهم .
٠ تنسيق أمني خليجي يجري بهدوء خلف الستار، هدفه ضمان سلامة الملاحة وتفادي الانزلاقات العسكرية بين الأطراف المشتبكة بالوكالة، خصوصاً في النقاط المشتعلة والرخوة :
في اليمن المريض الذي أنهكته الحروب، والعراق السقيم الذي لم يشفَ من جراحه، ولبنان الغريق الذي يتشبث بأنفاسه الأخيرة وسط عاصفة الانهيار .
إنها لغة المصالح المتبادلة والتوازنات الدقيقة، حيث لا مكان للصدفة، ولا مساحة للخطأ .
وفي هذا المشهد المعقّد، تُرسم السياسات في الظل…
بينما تضيء الكاميرات الواجهة فقط .
بهذا التحرك، تكون الرياض قد فتحت قناة اتصال عسكري مباشر، تُمهّد لتأسيس “آلية احتواء” ذكية ومدروسة، تسبق الانفجار المحتمل وتطوّق نذر التصعيد قبل أن تفلت من السيطرة .
ففي مناخ إقليمي مشحون، لا يكفي الاعتماد على البيانات الهادئة أو المواقف المعلنة .
ما تحتاجه المنطقة هو خط طوارئ فعّال، يُبنى على الثقة الحذرة، ويعمل بصمت في اللحظات الحرجة .
الرياض، من خلال هذا الانفتاح، لا تراهن على طرف دون آخر، بل تُراهن على موقعها كصمّام أمان إقليمي، يدرك أن الحرب حين تندلع، لا توفر أحداً .
هل يُعاد رسم أمن الخليج؟
ما نشهده اليوم ليس مجرد زيارة، ولا حتى خطوة تكتيكية عابرة؛ بل هو جزء من تحوّل استراتيجي أوسع في عقيدة السياسة الخارجية للرياض — تحوّل يعيد صياغة التموضع الإقليمي من منظور أكثر استقلالية وواقعية :
• تفكيك الاعتماد التقليدي على المظلّة الأمنية الأمريكية، التي أثبتت في محطات عديدة أنها لم تعد تفي بمتطلبات الحماية أو توقّع المخاطر .
• الانفتاح البراغماتي على مراكز القوى الإقليمية، بما في ذلك إيران وتركيا، بعيداً عن عقد الأيديولوجيا وأوهام الاصطفاف الحاد .
• هندسة توازنات إقليمية جديدة، تُجنّب الرياض الانزلاق في صدامات كارثية، وتُعزز حضورها كفاعل عقلاني، رصين، يُحسب له حساب في معادلات الردع والتفاهم على السواء .
إنه سؤال المرحلة :
هل نحن أمام معالم نظام أمني خليجي جديد، تُرسم خطوطه من الرياض لا من واشنطن؟
وفي هذا السياق، لا تبدو الزيارة حدثاً مفاجئاً، بقدر ما تُجسّد ملامح براغماتية سعودية جديدة، تتعامل مع التحديات الإقليمية بعقل بارد، وتُدير التوازنات برؤية استراتيجية تتجاوز منطق الاصطفاف والانحيازات التقليدية .
إنها سياسة تقرأ الخرائط لا الشعارات، وتُراهن على التحرك الذكي لا الاندفاع العاطفي .
الرياض اليوم لا تلعب دور المقاتل الذي يشعل الحرائق، بل الفاعل الهادئ الذي يفكك الألغام قبل أن تنفجر تحت أقدام الجميع .
تبني حضورها لا بالصخب، بل بصوت العقل الهادئ، القادر على إدارة التوازنات لا الانخراط في الصراعات .
وإذا كان هذا النهج قد ينجح في فتح أبواب طهران،
فكلّنا نأمل أن يمتدّ هذا المنطق إلى اليمن الجريح — أن تُطفأ النيران المشتعلة هناك، وأن يُمنح السلام فرصة ليولد من بين الركام .
الخلاصة :
الخليج على أعتاب مرحلة جديدة
قد تبدو زيارة وزير الدفاع السعودي إلى طهران صادمة في ظاهرها، لكنها في جوهرها ترجمة لتحوّل ناضج في فلسفة الأمن الخليجي، يقوم على الاستباق بدل الارتجال، والانفتاح بدل العداء .
فهي ليست مجرد زيارة بروتوكولية، بل إشارة سياسية محسوبة تقول إن حماية الداخل تبدأ من نزع فتيل التهديدات في الخارج، لا من انتظار شظايا الانفجار .
الرياض لم تعد تراهن فقط على تكديس السلاح، بل على صناعة الأمن بالعقل البارد، وبناء الجسور — مع الخصوم — دون أن تتنازل عن الثوابت أو تُغامر بالسيادة، كما فعلتها النخب اليمنية الفاسدة .
المنطقة تغيّرت، ومعها تغيّرت قواعد اللعبة .
ومن يُصِرّ على قراءة زيارة طهران بعيون الأمس، سيُعميه الغبار عن رؤية ملامح الغد .
0 Comment