شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
في زمن تتهاوى فيه القيم وتتكسر فيه المعايير الوطنية، يظهر بعض الرجال كأنهم تجسيد نادر لوطن كامل … رجال لا يصرخون في الميادين، بل يخطّون بصلابتهم خريطة الخلاص، ويكتبون في صمتهم سردية الكرامة الكبرى .
راشد محمد ثابت ليس مجرد أسم في سجل الثورة أو عنوان في دفتر الوحدة، بل هو سيرة وطنية مترفعة عن الصغائر، جامعة بين حرارة النضال ونبل الفكرة وشفافية الضمير .
كان راشد محمد ثابت من طينة الكبار الذين لا تتكررهم المراحل، أولئك الذين لا تنكسر رؤوسهم في لحظات العواصف، ولا تنحني ظهورهم حين تتصدّع الجدران من حولهم .
مثقفاً لا يهادن، مناضلاً لا يساوم، دبلوماسياً لا يتبدل، وشاعراً لا يكذب .
لم يتعامل مع الوطن كوظيفة، بل كقضية. لم يدخل ممرات السلطة ليبني مجده الشخصي، بل دخلها ليعبد طريقاً للجمهور، لأجل فكرة أكبر من المنصب، وأنبل من العنوان .
لقد عاش اليمن في ضميره قبل أن يراه متحققاً على الورق، وناضل من أجل وحدته كمن يحرس حُلماً لا يقبل المساومة .
لكن أكثر ما يُوجع في سيرة هذا الرجل، أن الوطن الذي أنصفه التاريخ، خذله النخاسون .
فقد انتهى به المطاف بعيداً، يصارع المرض في منفى الاختيار، بينما جوازه الدبلوماسي يُخرم كأن في طُهره ذنب، وتاريخه يُنسى كأنه لم يكن شاهداً ومهندساً و راوياً لمرحلة بكاملها .
راشد محمد ثابت ليس فقط مناضلاً حرر الأرض من الاستعمار، بل رجل حرر المعنى من الزيف، والوطن من التشظي، والسياسة من الدناءة، والكلمة من التزوير .
أن تكتب عنه اليوم، هو أن تكتب عن اليمن كما يجب أن تكون :
نقية، موحدة، عالية الجبين… وأن تعترف بأن التاريخ يُنصف أبطاله، ولو بعد حين .
من جبال الجنوب إلى فضاءات التحرير :
الميلاد والنشأة
في العام 1944، وعلى سفوح الجنوب اليمني الذي كان يومها يرزح تحت وطأة الاحتلال البريطاني، وُلد راشد محمد ثابت لا كرقمٍ جديد في سجلات القرى والبلدات، بل كشرارة أولى لحلم كبير ستكتبه الأيام لاحقاً باسم التحرير والكرامة .
كان الوطن حينها مكبّلاً، تنهشه يد الاستعمار وتُخرسه سطوة البنادق، لكن في صدر هذا الطفل كانت تنمو بذور التمرد، وتتشكل ملامح رجل ستشهد له الجبهات والمدن والكتب والمواقف على حد سواء .
في سنوات صباه، لم يكن راشد كغيره من الفتيان؛ كان يحمل في عينيه قلق الوطن، وفي جيوبه دفاتر الشعر، وفي قلبه يقظة مبكرة ضد الذل والظلم .
ما إن شبّ حتى انخرط في صفوف الجبهة القومية لتحرير الجنوب، لا بوصفه تابعاً مأخوذاً بالشعارات، بل كمثقف مقاتل، يمتلك وعياً حاداً بماهية الاستعمار، وضرورة التحرر، ومخاطر الاستبدال الخاطئ بين القيد والسوط .
لم يكن مجرد مناضل يركض خلف بندقية، بل كان مشروع ثورة، تقرأ كتب الثورة العالمية وتستلهم تجارب الشعوب، وتعيد ترجمتها إلى سياق يمني خالص .
كان يكتب الشعر كمن يخطّ خريطة طريق للكرامة، ويقرأ الفلسفة كمن يبحث عن أجوبة لأسئلة جريحة، ويقاوم كمن يعرف أن النصر لا يبدأ من البنادق، بل من الوعي .
لقد كان راشد محمد ثابت في تلك المرحلة بمثابة جسر بين جيليْن :
جيل الغضب وجيل البناء .
يجمع في شخصه طهارة الفكرة، وشراسة الموقف، وهدوء من يعرف أن للحرية ثمناً، وأن الانتصار الحقيقي يبدأ أولاً من الداخل .
الاعتقال والنفي…
اختبار الروح الوطنية وصقل المعنى
في العام 1965، كانت شرارة الثورة قد بدأت تشتعل، وكان راشد محمد ثابت يتقد حماسة في ميدان النضال، حين قررت سلطات الاحتلال البريطاني كسر شوكته، فاعتقلته على أمل أن تطفئ به وهج الحلم القادم من الجبال .
لكنه لم يكن رقماً عابراً في قائمة الموقوفين، بل كان روحاً عصية على القيد، وإرادة تعرف أن الزنازين لا تسجن الأفكار، وأن القضبان لا توقف الزمن .
في داخل السجن، لم ينكسر، بل ازداد صلابة .
لم يكن سجنه نهاية مرحلة، بل بداية تحوّل عميق في روحه؛ خرج من محبسه وهو أكثر وعياً بضرورة الثورة، وأشد يقيناً أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع بدماء الأحرار وصدق العزيمة .
تحوّل من مناضل ميداني إلى شاهد عيان على جرح شعب بأكمله، وعلى نهوضه من بين الركام .
وحين أشرقت شمس الاستقلال في 30 نوفمبر 1967، كان راشد هناك، حاضراً كأحد الذين دفعوا الثمن مقدماً، وكتبوا النصر بحروف من عرق ودم .
لم يترك تلك التجربة تتلاشى في ظلال النسيان، بل وثّقها بصدق الناجي وحرقة الشاهد، في كتابه المرجعي : “ ثورة 14 أكتوبر اليمنية من انطلاقتها حتى الاستقلال ” .
لم يكن مجرد تأريخ، بل استعادة لروح الثورة، وتثبيت لذاكرة وطنية كادت تُدفن في ضجيج السياسة وأوهام المنتصرين .
كتابه هذا لم يُهدَ للأرشيف، بل للأجيال القادمة، كي يفهموا أن الاستقلال ليس لحظة، بل مسار طويل محفوف بالتضحيات، وأن رجالاً مثل راشد لم يكتبوا التاريخ بالحبر، بل بالسجن والمنفى والصدق .
لقد كان اعتقاله أول أمتحان علني لروح وطنية لا تقبل الانحناء، ولإرادة قررت أن تمضي حتى النهاية، مهما تنكّر لها القريب، أو نفاها البعيد .
مناضل بثلاث وجوه :
الوزير، والسفير، والمثقف الذي لم يساوم
حين وضعت البنادق أوزارها ورفرفت راية الاستقلال في سماء عدن، لم يتجه راشد محمد ثابت نحو تقاعد الثوار أو مقاعد الذاكرة، بل ارتدى ثوب البناء الوطني بشغف لا يقل عن حماسته في ساحات النضال .
لم يكن من أولئك الذين يأسرهم المجد الماضي، بل من الذين يعرفون أن ما بعد الثورة أصعب، وأن بناء الدولة يتطلب وعياً نقياً لا يتلوث بإغراءات السلطة ولا بمنافع المناصب .
في مسيرته العملية، تنقّل راشد بثقة وحكمة بين مفاصل الدولة، مؤدياً أدواره بعقل الدولة وروح المناضل .
كان وزيراً لا يلهث وراء الكاميرات، وسفيراً لا يهادن على حساب المبادئ، ومثقفاً لا يخون قلمه من أجل فتات السلطة .
فشغل مناصب عدة، أبرزها :
- وزير الإعلام عام 1973، حيث حاول أن يُحدث توازناً بين صوت الدولة وصوت الحقيقة، ويؤسس لخطاب وطني لا يخنق التعدد ولا يجمّل القبح .
- وزير الثقافة والسياحة بين 1980 و1986، فكان حاملاً لراية الهوية، مؤمناً بأن الثقافة دفاع ناعم عن الذات، وأن السياحة ليست مجرد صناعة، بل جسر نحو الآخر وإثبات على أن لليمن وجهاً حضارياً يليق به .
- وزير الدولة لشؤون الوحدة اليمنية حتى لحظة تحقيق الحلم في مايو 1990، وهناك كان حضوره أكثر من رمزي؛ كان أحد الذين خطّوا اللبنات الأولى لفكرة الوحدة، ليس على الورق فقط، بل في الضمير السياسي، وفي سياق شاق من المفاوضات، والخلافات، والرهانات المصيرية .
أما في الدبلوماسية، فقد حمل راشد محمد ثابت اليمن في قلبه قبل جواز سفره، ومثّلها سفيراً في تونس، ثم المغرب، وأخيراً في القاهرة، لكنه لم يكن سفيراً عادياً .
كان عيناً على الوطن من الخارج، وضميراً يذكّر العواصم بأن اليمن ليست دولة هامشية، بل بلد يمتلك من العمق التاريخي والثقافي ما يُلزم العالم باحترامه .
وفي كل تلك المناصب، لم يتخلّ عن وجهه الثالث :
المثقف الصادق .
ظل يكتب ويفكر ويُربك من حوله بأسئلته العميقة وإصراره على الحقيقة، حتى لو جاءت موجعة .
لم ينغمس في صراعات الأجنحة، ولم يسمح لأن يتحول إلى ديكور سياسي، بل حافظ على استقلاليته كقيمة عليا، وعلى ضميره كمرآة لا تُكسر .
راشد محمد ثابت، باختصار، لم يكن موظفاً في الدولة، بل شريكاً في صياغة معناها .
تنقّل بين الوزارات والسفارات كمن يزرع الحلم في كل محطة، ويكتب صفحة من كتاب اسمه اليمن .
المثقف داخل الدولة…
وضميرها حين يختنق الصوت
لم يكن راشد محمد ثابت مجرّد مسؤول يتقن لغة البروتوكولات أو يُجيد تدوير الملفات، بل كان شيئاً نادراً في مشهد السلطة :
مثقفاً يشغل منصباً لا يذوب فيه، ووطنياً يزن قراراته بميزان الضمير قبل القوانين .
لم يكن قلمه تابعاً لموقعه، بل كانت كلماته أعلى من كرسي الوزارة، وأعمق من صيغ الخطابات الجاهزة .
رفض أن يُحوَّل إلى بوق، أو أن يُساق إلى صمت مُذل، وظلّ طوال مسيرته وفيّاً للناس، والحق، والذاكرة .
في دهاليز السلطة، حيث تُختبر النوايا وتُشترى المواقف، احتفظ راشد بميزته النادرة :
نقاء الموقف ورفعة الأخلاق. لم يقايض القيم بالمناصب، ولم يبع صوته في سوق الصفقات، ولم يتورط في مهزلة التزلف .
كان يقول “لا” حين يصمت الجميع، و” نعم ” فقط حين تتطابق مع ضميره الوطني .
لم يكن معارضاً صاخباً ولا موالياً خانعاً، بل كان مثقفاً ينتمي للحقيقة، ولو كلفه ذلك كل شيء .
تميّز بأسلوبه الواقعي في مقاربة السياسة، دون أن يفقد وضوحه الوطني أو ينزلق في دهاليز الانتهازية .
جمع بين الالتزام السياسي والرقي الأخلاقي، فكان نموذجاً نادراً لمفهوم “ السلطة النبيلة ” التي تحترم نفسها لأنها تنحاز لمواطنيها .
لقد مثّل راشد محمد ثابت الوجه المضيء للوظيفة العامة، حيث المسؤولية تكليف لا تشريف، والموقف أمانة لا سلعة، والكلمة موقف لا أداة تبرير .
كان، ببساطة، روحاً حُرة داخل جسد الدولة، وضميراً يقظاً داخل جهاز تتآكله التنازلات .
رجل الدولة …..
الذي آمن بأن الوحدة فعل حضاري لا صفقة سياسية
في الزمن الذي كانت فيه اليمن تقف على حافة الانقسام الأبدي، وتكاد تغرق في مستنقعات الريبة والأحقاد المتراكمة، كان راشد محمد ثابت يقف هناك، في المساحة الرمادية بين الشك والأمل، ممسكاً بخيوط الحلم بإصرار العارف أن هذا الوطن لا يحتمل فشلًا آخر .
في أواخر الثمانينات، لم يكن مجرد موظف في وزارة الوحدة، بل كان أحد أهم العقول النزيهة والمخلصة التي أعادت رسم خارطة القلب اليمني، بتأنٍ وصبر ورؤية لا تغريها الأضواء ولا تُربكها العواصف .
إلى جانب شقيقه في المبدأ والهم الوطني، المناضل يحيى حسين العرشي، شكّل راشد ثنائياً استثنائياً في مفاوضات إعادة نسج الجغرافيا والتاريخ معاً .
لم يكن التفاوض آنذاك حول نصوص أو صلاحيات أو تقاسم كراسي، بل حول استعادة “ يمنٍ مكسور ” إلى لحظة التئام، حول ترميم ما تمزق في الوعي الجمعي، وتحويل الوحدة من شعار إلى مصير .
بهدوء الحكماء، ونزاهة العارفين بثقل اللحظة، انكبّ راشد على مدّ الجسور، وترتيب الكلمات، وإخماد الشكوك، وتهدئة الضجيج السياسي ليُولد في 22 مايو 1990 ما أسماه هو لاحقًا ب أجمل ما كتبناه بدم القلب لا بحبر المصلحة ” .
لم يسعَ إلى بطولات استعراضية، بل ظل يعمل في الظل، كعادته، يكتب التاريخ بصمت، ويترك للنتائج أن تتحدث .
كان يؤمن أن الوحدة لا تُفرَض، بل تُبنى بتفاهم وصدق وإرادة حقيقية تتجاوز الحسابات الضيقة .
وقد كانت إرادته في تلك اللحظة التاريخية انعكاساً نادراً لعقل يمني مسؤول لا تُعميه النرجسية، ولا تُغريه النهاية السهلة .
لقد كان راشد محمد ثابت بحق، شريك النبض اليمني، لا في لحظة التوقيع فقط، بل في كل لبنة أُرسيَت لبناء الوحدة، وكل كلمة قيلت لتجسير الهوة بين شعبٍ أنهكته الجدران والرايات والانقسامات .
ظل في الظل ليضيء الطريق…
لا يلهث خلف الأضواء بل يصنع الفجر
لكن راشد محمد ثابت، كعادته، لم يهرول نحو الأضواء ولم يبحث عن لقطات المجد العابر .
لم يكن من أولئك الذين يصرخون بأسمائهم في لحظة الإنجاز، بل من أولئك الذين يخطّون التاريخ بأصابع خفية، وينصرفون قبل أن يُصفق لهم أحد .
في كواليس التفاوض، وفي ردهات الحوار الوطني، ظل راشد حاضراً بفعله لا بصورته، يحرث الأرض ليزهر الحلم، ويبني الجسور حيث اعتاد الآخرون أن يشيّدوا الأسوار .
كان يؤمن أن الوحدة اليمنية ليست مجرّد اتفاق سياسي بين سلطتين، بل فعل حضاري عميق، واختيار جمعي يعبر عن إرادة شعبٍ أنهكه الانقسام وتاقت روحه للتماهي مع ذاته .
كان يرى في الوحدة مشروع نهضة لا صفقة مصالح، ورأى فيها جسداً واحداً لشعب لا تكتمل حياته إلا بالتكامل، ولا تُشفى ذاكرته إلا بالتصالح مع ماضيه ومستقبله .
لقد زرع الثقة حيث نبتت الشكوك، وهدّأ المخاوف حين ارتفعت نبرة الصراع، وكان صوته المنخفض في لحظة التفاوض أصدق من كل الشعارات العالية .
لم يشترِ لنفسه أمجاداً من الوحدة، بل دفع لها من رصيد عمره، وكتب سطورها بإيمان العاشق لا بحسابات السياسي .
هكذا كان راشد محمد ثابت…
لا يركض نحو الضوء، بل يصنعه، ويمضي في صمت الأنقياء .
الشاعر “ذو ريدان”…
حين تتحوّل السياسة إلى قصيدة، والوطن وتراثه إلى بيت شعر
لم يكن راشد محمد ثابت مجرّد رجل دولة تحكمه لغة الوثائق والمراسيم، بل كان شاعراً يحمل في قلبه نبض اليمن، وينسج من الكلمات خريطة أخرى للوطن، أكثر صدقاً، وأكثر نقاء .
في عالمه الموازي، لم يكن الوزير أو السفير، بل كان “ ذو ريدان ”… أسمٌ شعري أختاره لنفسه، كأنما ليهرب من صخب المناصب إلى هدوء القصيدة، ومن حسابات السياسة إلى عفوية الشعر .
تدفقت قصائده كينابيع الداخل، مفعمة بالحنين، مترعة بالانتماء، مشبعة بعنفوان العروبة وألم اليمن الكبير .
لم تكن كلماته معجماً لغوياً، بل نداءً داخلياً يحاول أن يُرمّم ما أفسدته السياسة، ويُعيد للروح مذاقها الأول .
كتب بلغة أنيقة، شفّافة، بعيدة عن الزيف والمجاملات، تُشبهه في رهافتها وصدقها، وتنهل من قاموسٍ عاشه لا درسه، فيه وجع الجنوب، وشوق الشمال، وغصة الوحدة التي تحققت على الورق وتشتت في الوجدان .
كانت قصائده مرآةً لذاته النقية، وصوتاً داخلياً لم يجده في ميكروفونات السياسة ولا في ضجيج المؤتمرات .
ومن بين الحروف، يتسلل إلينا راشد الإنسان :
العاشق، الحالم، المتألم، الصادق حدّ الألم .
كتب عن الوطن كما يُكتب عن الحبيبة الغائبة، لا كموضوعٍ بل ككائنٍ حي يسكن القلب ويوقظ الحنين .
في زمنٍ جفّت فيه اللغة السياسية من المعنى، ظل “ ذو ريدان ” يُعيد للعبارة معناها، وللحرف قداسته، ولليمن روحه .
رجل في المنافي…
والتاريخ في مرقده لا ينام
في سنواته الأخيرة، حين كان جسده يذبل ببطء في غربته القسرية، لم تكن الدولة التي خدمها بدم القلب حاضرة لترد الجميل .
لم يطلب راشد محمد ثابت منصباً، ولا نادَى بأوسمة، بل كل ما احتاجه كان كرامة تُصان، وجوازاً لا يُخرَّم، وذاكرة وطن لا تخذل أبناءها .
لكنّ المرض ألزمه الإقامة في ماليزيا للعلاج، وهناك حدث ما يشبه الخيانة الرمزية :
السفارة اليمنية سحبت جوازه الدبلوماسي ومزّقته كما لو أنها تمزق ذاكرة رجلٍ كتب بعضاً من صفحات التاريخ بيده .
كان ذلك الفعل الصغير في صورته، كبيراً في دلالته المؤلمة :
سلوك لا يشبه اليمن، ولا يشبه أخلاق مناضليه، ولا يليق برجل كان صوت الوحدة حين كانت مجرد فكرة، وكان نبض الثورة قبل أن تتحول إلى مؤسسات وسفارات ومراسيم .
لكنّ الشعوب لا تنسى، حتى وإن تواضعت ذاكرة الحكومات الفاسدة والمهاجرة خارج الحدود، أو تواطأت بعض مؤسساتها على الصمت والتجاهل .
عندما يخفت صوت الرسميين، تتكلم الضمائر، ويعلو صوت التاريخ كما يُفترض له دائماً أن يفعل .
فالمنافي لا تمحو الأثر، والخذلان لا يُطفئ النور الذي زرعه الكبار .
لقد عاش راشد آخر سنواته في الظل كما عاش حياته كلها، صامتاً في ألمه، عظيماً في كرامته، حاضراً في ضمير اليمن وإن غاب جسده خلف الغيوم .
حاضر ببصمته…
وغائب في وطنه
لا يزال راشد محمد ثابت حياً يُرزق، لكنّه يعيش كمن مضى .
ليس لأنه رحل، بل لأن الدولة التي خدمها لم تحضر معه في لحظات محنته، كما حضرت على كتفيه في أيام مجدها .
منفاه في ماليزيا ليس اغتراباً جغرافياً فقط، بل عزلة معنوية لرجل نادر… نُفي وهو في قلب الوطن، لا لأنّه أخطأ، بل لأنّه صدق أكثر مما ينبغي .
ما زال حاضراً، نعم، لكنه حضور الظلال الثقيلة في ضميرنا، وصدى الأصوات الخافتة في ذاكرة أمة تنسى من لا يرفع صوته ليُطالب بشيء .
لم يتسول الإنصاف، ولم يكتب رسالة عتاب، ولم ينكسر رغم تعب الجسد وضيق العالم من حوله.
لكن السؤال يظل واقفًا على بوابة الكرامة :
هل يجوز لأمة أن تترك أحد أهم مهندسي وحدتها، ورموز ثقافتها، ورجالات صدقها السياسي والأخلاقي، خارج دائرة الاهتمام ؟
إن راشد محمد ثابت لا يزال حياً، لكن التاريخ — إن لم ننتبه — سيكتب أننا حيّدناه حياً، كما يُحيَّد العظماء حين يُحرجون حاضرهم المتهالك بماضيهم النظيف .
ولعل تكريمه ليس منّة، بل حق واجب، وواجب متأخر، وواجب لا يُغتفر نسيانه .
الخلاصة :
أن تُنصف راشد محمد ثابت، يعني أن تُنصف اليمن
إن الإنصاف لراشد محمد ثابت اليوم ليس حاجةً أخلاقية، بل ضرورة صميمية وطنية وتاريخية .
فالرجل لم يكن رقماً في سجلات الدولة، بل أحد معمارها الثقافي والسياسي، وممن صنعوا لليمن مجدها دون ضجيج أو ادعاء .
إن من حق هذا الرجل أن يُكتب عنه في مناهج الأجيال، أن تُجمع أعماله الشعرية والنضالية، وأن يُمنح وسام الوفاء من وطن كاد أن ينسى أبناءه البررة .
وإن من واجب المثقفين والإعلاميين والمؤرخين أن يحفظوا اسمه، كما تحفظ الأوطان أسماء مؤسسيها .
راشد محمد ثابت…
رجل من زمن الحلم، ومُعلم في مدرسة التاريخ .
0 Comment