منارة اليمن… كيف أطفأها الفاسدون؟

منارة اليمن… كيف أطفأها الفاسدون؟

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

 

 

عدن..المدينة التي أنارت اليمن قبل أن يعرف الكهرباء، تغرق اليوم في عتمة الفساد .

النور أطفأه اللصوص، لكن النساء أشعلن الصوت… ولن يُطفأ .

 

في أقصى الجنوب… وُجدت مدينة لم تكن تشبه أحداً، لأنها كانت تسبق الجميع .

عدن، المدينة التي صاغت الحداثة بينما كان اليمن لا يزال يتعلم أبجديات النهضة الحديثة .

 

كانت عدن ثاني ميناء عالمي، ثاني مطار دولي، أول مدينة يمنية تدخلها الكهرباء، وأول من شيّدت شبكة مياه وصرف صحي متكاملة، وأول من عرفت الحافلات، والمطابع والمكتبات والصحافة والاعلام، والبنوك والصرافة، والتجارة العابرة للقارات، والبريد والهاتف، والتلفزيون، والرياضة، والمتنفسات، والثقافة العالمية والمسارح والسينما، والمرافئ المنظمة، وأول من سكنت فيها الحداثة والمدنية قبل أن تُطرَق أبواب العالم العربي .

 

لكن ما جعلها أعظم من عمارتها، هو وعي ناسها، وكرامة نسائها، وجرأة مثقفيها، ونباهة عمّالها، وسخاء بحّاريها .

 

اليوم، بعد أن أجتمع عليها الفشل من كل حدب، وتكالب عليها الفاسدون من كل إتجاه، تنهار عدن تحت وطأة الإهمال والتجويع والتجهيل، وتُطفأ منارة اليمن بيد من كان يُفترض أن يحرسوها .

 

لكن وسط هذا الخراب، تنهض من بين الركام امرأة عدنية، تهتف من الشارع: “ لن تُطفأ عدن، ما دمنا نحمل نورها في صدورنا ” .

 

لقد كانت النساء أول من بادر بالاحتجاج، وأول من صرخ في وجه الظلم، وأول من حمل أطفالها في شمس الصيف لتقول للعالم : “ الظلام لا يُخيفنا… الفساد هو عدونا ” .

 

عدن لم تمت… لكنها تُختنق .

وهذا المقال محاولة لإنعاش ذاكرتها، وكشف قاتليها، وتذكير الجميع : 

منارة اليمن لا تنطفئ… بل تُخمدها يد الفساد، ويوقظها شعب لا يموت .

 

عدن… مدينة تنطفئ بصمت الحكومات المهاجرة، وتشتعل بصوت النساء

 

في الوقت الذي تزداد فيه طبقات الغبار على مكاتب المسؤولين، وتُخنق فيه الحقيقة في دهاليز الصمت الرسمي، اشتعلت عدن اليوم من قلب شوارعها، لا بنار الخراب، بل بنار الوعي . 

 

خرجت نساؤها، لا يطلبن شيئًا لأنفسهن، بل يصرخن نيابة عن مدينة تُدفن حيّة كل يوم تحت أنقاض الفساد، وسنوات من الخذلان المتواصل .

 

لم تكن التظاهرة النسوية التي شهدتها عدن مجرّد احتجاج عابر، بل كانت إعلاناً مدنياً صريحاً بأن المدينة لم تمت، وأن النساء هنّ آخر من بقي على خطوط النار . 

 

لافتاتهن لم تكن كلمات خشبية، بل شرارات من ذاكرة موجوعة، صيغت بلغة الصبر والكرامة والغضب .

كنّ يهتفن : 

“ لن نُقهر… ولن يُدفن وطننا بصمت ” .

 

في بلد مزقته الحرب، وسُرقت فيه المؤسسات، وتحوّل فيه الحاكم إلى تاجر، لا تزال المرأة العدنية تحرس آخر ما تبقى من روح المدينة .

 

 هي لم تحمل السلاح، لكنها حملت الذاكرة، والشارع، والحقيقة . 

 

وقفت هناك، في الشمس، في العراء، لتقول :

 “ نحن صوت هذه المدينة… ولن نسكت عن جريمة خنقها ” .

 

عدن لا تطلب صدقة من أحد، بل تطالب باستعادة كرامتها، واسترداد حقها في الحياة .

وإن كانت السلطات قد أطفأت أنوار المدينة، فإن نساءها أشعلن وهج الكرامة من جديد .

 

الكهرباء… مدينة النور تغرق في العتمة

 

عدن، المدينة التي كانت أول عاصمة عربية يضيئها التيار الكهربائي، تعيش اليوم في ظلام يُشبه الحصار، لا لشيء سوى لأن الفاسدين قرروا أن يطفئوا التاريخ ويبيعوا الحاضر .

 

 في مدينتها التي كانت تُلقّب بـ” مدينة النور ”، و " بندر الشرق الأوسط " ، لا ترى الآن سوى شوارع منهكة، وبيوت تختنق بالحر، ومستشفيات تُطفئ أجهزتها، ومدارس تُعلق دروسها بانتظار “ جدول تقنين ” لا يأتي إلا بالخذلان .

 

التيار الكهربائي ينقطع لساعات طويلة قد تمتد ليومٍ كامل، بينما المولدات تتسلل إلى السوق السوداء، وتُقدَّم كبديل يُنهك الجيوب ويحرق الأعصاب . 

المواطن لا يُعاني من انقطاع الكهرباء فقط، بل من الشعور القاسي بأنه متروك عمداً، ومُستَهدف بسياسة التجويع والترويع .

 

كل ذلك يحدث، بينما تُرصد المليارات في ميزانيات “ الطوارئ ”، وتُبرم العقود مع شركات وهمية، بعضها لا يملك حتى مقراً، لكنها تملك امتياز “ النهب المضمون ” . تُدار مشاريع الكهرباء من خارج المدينة، وتُسند لعواصم القرار والصفقات، لا لعدن ولا لأهلها . 

كل ما يصل منها إلى الناس… هو شعار على لوحة صدئة، وإبرة في خاصرة مدينة تتألم .

 

عدن لا تطالب بمستحيل، بل فقط باستعادة ما كان لها :

 نورها، وكرامتها، ومكانتها .

لكن الفساد اليوم لا يسرق الطاقة فحسب… بل يسرق ما هو أعمق : 

شعور الناس بالحق في الحياة .

 

الماء… العطش في مدينة تطل على البحر

 

ما أقسى أن يعطش الإنسان في مدينة تعانق البحر من كل الجهات، والأقسى أن تكون تلك المدينة هي عدن، التي امتلكت في خمسينيات القرن الماضي واحداً من أكثر أنظمة المياه الحضرية كفاءة وتنظيماً في الجزيرة اليعربية . 

كانت المياه تصل إلى البيوت بانسيابية، وتُدار بشبكة متكاملة من الخزانات ومحطات الضخ والرقابة . 

 

واليوم ؟ صهريج الماء أصبح حلماً يُشترى بأسعار تفوق قدرة المواطن، والحنفيات جفّت، والخزانات صدئت، والأمل تسرّب مع آخر قطرة من صنبور مهجور .

 

كيف وصلنا إلى هنا ؟

من الذي صادر الماء من أفواه أطفال عدن ؟ أين ذهبت مشاريع التحلية التي وُعد بها الناس ؟ ولماذا تتحوّل المدينة إلى صحراء عطشى فوق بحر مالح ؟

 

الإجابة مرة أخرى واضحة كالشمس التي تحرق الأحياء العطشى : 

حين يتحكّم الفساد، يصبح حتى البحر ملكاً للنافذين . 

في ظل هذا النظام، لا شيء يصل إلى الناس… لا ماء، ولا كهرباء، ولا حتى وعود صادقة .

 

المواصلات… من شبكة منظمة إلى فوضى بلا أفق

 

كانت عدن تُفاخر بجسورها، وشبكات نقلها المنضبطة، وخطوطها المنظمة التي تربط الأحياء بالمدن، والمدارس بالموانئ، والمواطن بكرامته . 

كانت الحافلات تعمل بجداول دقيقة، والطرق تُعبد وتُنار، والتخطيط يسبق التنفيذ .

 

أما اليوم، فكل شيء أنقلب رأساً على عقب :

الطرق محفّرة حتى العظم، المركبات متهالكة، وأبسط المشاوير اليومية تحوّلت إلى رحلة عذاب . 

المواطن قد يقف بالساعات منتظراً وسيلة نقل، أو يضطر للسير كيلومترات تحت شمسٍ لا ترحم، في غياب تام لأي رؤية عمرانية أو شبكة نقل حديثة .

 

المشاريع تُعلن ولا تُنفذ، المخططات تبقى حبراً على ورق، والميزانيات تُقيد في دفاتر المنح والمنحنيات، قبل أن تبتلعها جيوب السماسرة والمقاولين المحسوبين على مراكز النفوذ .

عدن لم تفقد وسائل النقل فقط، بل فقدت الطريق نفسه نحو المستقبل .

 

نساء عدن… 

ذاكرة الصمود ورافعة الكفاح

 

حين خرجت نساء عدن اليوم إلى الشوارع، لم يكن خروجاً لحظة غضب عابرة، بل امتداداً لقرون من الكفاح المتجذّر في هوية هذه المدينة . 

 

خرجن لا لأنهن فقط المتضررات من انقطاع الكهرباء أو شحّ الماء، بل لأنهن الأقدر على استشعار الخطر حين يُهدَّد جوهر المدينة وروحها . 

 

حملت كل امرأة عدنية في قلبها ذاكرة ممتدة، من بلقيس العظمى وأروى الصليحية اللاتي حكمن بجسارة، إلى نساء قاومن الاستعمار البريطاني، إلى أمهات الشهداء، إلى العاملات والمعلمات والمثقفات اللواتي ظللن في الصفوف الأمامية، حتى حين غاب الرجال .

 

اليوم، ترفع المرأة العدنية صوتها لا لتحتج على خدمات منهارة فحسب، بل لتفضح خيانة صامتة، وتعلن أن التخريب المتعمّد لعدن ليس قضاءً وقدراً، بل مشروعٌ يُدار من غرف الفساد، ويسنده سكوت رسمي مشبوه .

 

اللافتات التي حملتها النساء لم تكن مجرد شعارات، بل رسائل صريحة :

لن تسقط عدن… ما دامت نساؤها واقفات .

 

إن تظاهرات النساء اليوم ليست فقط تعبيراً عن المعاناة، بل بيان نضال حضاري، يقلب المعادلة : 

من مدينة تُراد لها الهزيمة، إلى مدينة تُبعث من جديد بأصوات نسائها .

ولكل من راهن على صمت النساء، أتت الإجابة من شوارع عدن :

نحن الصرخة التي تسبق التغيير… والصوت الذي لا يُمكن إسكاتُه .

 

من المسؤول ؟ ولماذا لا يُحاسب ؟

 

في عدن، لا تغيب الحقيقة… بل تُغتال بصمت . 

والكارثة لم تكن يوماً في انقطاع الكهرباء، أو جفاف الماء، أو تهالك الطرق، بل في غياب المحاسبة، في الإفلات الممنهج من العقاب، في نظامٍ يُكافئ الفاسد بالمنصب، ويُقصي الشريف بالتهميش .

 

الفساد في عدن ليس خطأً إدارياً عابراً، بل منظومة محكمة، تشبّعت بها المؤسسات، وتغذت منها النخب، وتحوّلت معها المدينة إلى سوق مفتوح للنهب والعمالة وتبادل المصالح . 

 

المسؤول لا يُسأل، لأن من يُفترض أن يُحاسبه… شريك في الغنيمة .

والوطنية تحوّلت إلى لافتة فارغة، يعلّقها الفاسد على صدره بينما يغرس خنجره في خاصرة المدينة .

 

الناس لم تعُد تنتظر وعوداً، لأنها سمعت ما يكفي من الخطابات المكرّرة، ورأت بأعينها كيف تتحوّل الاجتماعات الرسمية إلى حفلات علاقات عامة، يُلتقط فيها المسؤول مع معاناة المواطن… دون أن يتغيّر شيء .

 

والأخطر من كل ذلك :

 أن من ساهم في خراب عدن، يخرج اليوم في وسائل الإعلام متقمصاً دور “ المنقذ ”، بوجه مصقول بالكذب، وصوتٍ مليء بالشعارات، وملفٍ خالٍ من أي إنجاز .

 

في عدن، المجرم يرتدي ثوب المخلّص، ومن يدّعي خدمة الناس هو من قادهم إلى الهاوية .

ولهذا، لم تعد الأسئلة تُطرح فقط عن الكهرباء والماء… بل عن الضمير المفقود، والعدالة الغائبة، والمحاسبة المؤجلة إلى أجلٍ غير مسمّى .

 

المدينة لا تحتاج خطابات جديدة… بل مساءلة قديمة لم تبدأ بعد .

ولن يُشفى جرح عدن حتى يُكشف المستور، وتُسمّى الأشياء بأسمائها، ويُحاسب كل من باع المدينة بثمنِ منصب أو توقيع .

 

نداء من قلب عدن… إلى من لا يزال في عروقه وطن

 

عدن لا تمد يدها لتستجدي، ولا تُحني رأسها لتتوسل .

عدن، التي أضاءت ذات يوماً سماء الجزيرة اليعربية بالكهرباء، وارتوت بمياهها قبل أن تعرف المدن مفهوم الشبكات الحديثة، لا تطلب المستحيل… بل تطالب بأبسط حقوقها : 

ماء نقي، وكهرباء لا تنقطع، وطرق لا تنهار تحت الأقدام .

 

لكن خلف هذه المطالب البسيطة، هناك صرخة كبرى :

صرخة ضد الفساد، ضد التواطؤ، ضد اختطاف المدينة من أهلها .

ما تطلبه عدن ليس خدمة، بل عدالة .

ليست منّة، بل حق .

ليست شفقة، بل مساءلة جادة وشفافة تُعيد إدارة المدينة إلى أبنائها الشرفاء، ممن تربّوا على حبها، لا على نهبها .

 

عدن اليوم لم تعد مجرّد مدينة تعاني من سوء الخدمات…

إنها قضية وطنية عليا، وامتحان أخلاقي لكل من في سلطة نخاسة الأوطان، ولكل من يزعم الانتماء للوطن .

هي البوصلة… ومن دونها، يضيع الاتجاه .

هي المنارة… وإن انطفأت، غرق الجميع في العتمة .

 

فيا من بقي في قلبك ذرة من ضمير…

أنصت لصوت عدن، لا لتغسل به يديك من المسؤولية، بل لتنهض بها، ومعها .

فعدن لا تحتمل التسويف بعد الآن، ولا تحتمل متفرجين على حريقها وهم يحسبون أنفسهم وطنيين .

 

عدن لا تحتاج كلمات… بل موقفاً.

ولا تريد تعاطفاً… بل فعلاً .

فمن لا يسمع هذا النداء الآن،

قد لا يجد ما يسمعه حين تصمت عدن إلى الأبد .

 

وأخيراً… 

صوت عدن لا يُطفأ

 

عدن لا تموت… لأن المدن التي تسكن في الوجدان لا يُهزمها الظلام .

عدن لا تُهزم… لأن نساءها لم يعرفن الانكسار، ولأن أقدامهن حين تخطّ الشوارع، ترسم حدود الكرامة .

 

كلما علت هتافات النساء، كلما انكسرت دائرة الصمت، واهتزت عروش الفساد .

 

كلما رفعت عدنيةٌ لافتةً من وجع، إقترب النور، وارتجفت العتمة .

 

عدن لا تطلب معجزة… هي تصنعها، بحناجر أمهاتها، بوعي بناتها، وبكبرياء جيلٍ يرفض أن يرث الخراب .

 

النور سيعود… لأن الصراخ في الساحات أقوى من كل صفقات الظلام .

 

الماء سيتدفق… لأن صوت العدنيات لا يقبل أن يُجفف كما جُففت حنفيات البيوت .

وستدور العجلات من جديد… لأن عدن تعرف كيف تُبعث، حتى من تحت الركام .

 

عدن تنادي… لا من موقع الضعف، بل من قمة الكبرياء .

 

تنادي بصوت النساء أولاً… 

فهل من قلبٍ يسمع ؟ 

وهل من ضميرٍ ينهض ؟ 

وهل من رجلٍ يغير ؟.

" ولا ينبئك مثل خبير " .

Keywords:

0 Comment

Add Your Comment

Back Top