ترليونات بلا ذاكرة مصر تُقصى … وغزة تُقصف

ترليونات بلا ذاكرة مصر تُقصى … وغزة تُقصف

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

 

 

 

حين تُكافأ إسرائيل بالذهب، وتُقصى مصر من معادلات القرار العربي، يصبح المال بلا ذاكرة، والتاريخ بلا احترام .

 

في شهر واحد فقط، فاجأ دونالد ترامب العالم بإعلانه عن صفقات هائلة تجاوزت 4 تريليونات دولار مع دول خليجية، في مشهد بدا كإعادة ترسيم لخريطة النفوذ والثروة في المنطقة، ولكن بأطياف من التجاهل، وظلال من النكران المريع .

 

لم تكن صفقات استثمار، بل كانت – في جوهرها – إعادة تأهيل سياسي لرجل منحاز بلا مواربة لإسرائيل، ويقف على منبر العالم ليشرعن قصف غزة و محاولة لمحو “ مصر العروبة ”، من خرائط النفوذ، وهذا مالم ولن يحدث أبداً .

 

إن التدفق الترليوني هذا، لم يُمنح القاهرة سوى التجاهل، ولم يُمنح غزة سوى النار . 

 

وكأن ما يُمنح من ترليونات لا يُمنح لنهضة عربية، بل يُسخّر لتزيين صورة ترامب أمام ناخبيه، وتثبيت تحالفات عمياء لا تقيم وزناً لذاكرة الأمة، ولا لثقلها الحقيقي .

 

هكذا يُعاد تعريف الحلفاء … 

لا بالدم، ولا بالتاريخ، بل بالمزاد .

 

لكن ما لم يُقَل بعد – وما لا يجوز أن يُطمَس بصمتٍ عربيٍّ بارد – هو غياب مصر …

مصر الدولة، لا الظلّ. مصر الحاضنة لا الطارئة . 

 

مصر التي كانت ذات زمنٍ تُستشار لا تُستبعد، وتُصنع معها التوازنات لا تُفرض عليها من خارجها .

مصر … 

القلب العربي الكبير، الذي إذا خفت نبضه ارتبك الجسد كله .

 

المال السياسي … 

حين يُستثمر في من يشرعن الاحتلال

 

لم يعد دونالد ترامب تلك الشخصية المثيرة للجدل في حملاته فقط، بل عاد رئيساً للولايات المتحدة، مدجّجاً بتفويض انتخابي وعتاد سياسي أكثر صرامة، يخوض به معركة إعادة صياغة النفوذ في المنطقة، لا عبر المبادئ … 

بل عبر الشيكات المفتوحة .

 

لقد دخل الخليج هذه المرة لا كمفاوضٍ يسعى لتفاهم، بل كمُصمم خرائط جيوسياسية، يُقسم فيها النفوذ بحسب التدفقات المالية، ويرسم فيها معالم الولاء وفق قاعدة صارمة :

من يدفع يُسمع، ومن يصمت يُقصى .

 

لم تكن جولاته الاقتصادية سوى عنوان لمرحلة جديدة، تُغلفها لغة الاستثمار، لكنها تُدار من خلف الستار ببراغماتية مفرطة، تعتبر المواقف السياسية سلعاً، والعلاقات العربية أوراقاً تفاوضية لا أكثر .

 

ففي مشهد بدا كأنه من خارج الزمن العربي، غابت العواصم التاريخية عن الطاولة، وتصدّرت لغة الصفقات على حساب الذاكرة القومية .

 

واشنطن أعادت ترتيب أولوياتها … 

ولكن بفواتير مدفوعة من جيب الأمة اليعربية .

 

الخطير ليس فقط ما كسبه ترامب، بل ما خسره العقل العربي في لحظة غابت فيها المعايير، وانكفأت فيها مصر، وتُركت غزة وحيدة في مرمى النسيان .

 

لكنه لم يأتِ إلى الخليج هذه المرة كرجل مصالح يبحث عن النفوذ، بل كرئيسٍ منتخب، يحمل إلى الشرق الأوسط أجندة صلبة، عنوانها : 

الدعم المطلق لإسرائيل، لا كخيار سياسي، بل كركيزة عقائدية راسخة في قلب استراتيجيته .

 

لم تعد الصفقات مجرد أدوات ضغط، بل تحوّلت إلى شهادة ولاء تُكتب بالتريليونات، وكل اتفاق يُبرَم لا يُقرأ في دفاتر الاقتصاد، بل يُسجَّل في أرشيف حملته كرئيس يخوض معركة الداخل الأميركي، مستنداً إلى الذهب العربي المهدور .

 

إنه لا يسعى لتقريب وجهات النظر،

بل يُعيد رسم الخريطة السياسية للمنطقة وفق مبدأ : 

من يدفع يُصنَع له دور، ومن يصمت يُمسَح من الحسابات .

 

وللأسف، في هذا المشهد … تتوارى فلسطين، وتُقصى مصر، ويُكافَأ الاحتلال . 

 

إنه لا يبيع وعوداً … بل يشتري صمتاً .

ولا يعرض تسويات … بل يسوّق للاحتلال كخيار حتمي، ويُعيد هندسة التحالفات بعيداً عن فلسطين، وبمعزلٍ عن مصر، وخارج حدود العمق العربي كلّه .

 

في هذا المشهد المشوَّه، يتحوّل المال العربي إلى وقود انتخابي لحملةٍ لا تُخفي عداءها للحق الفلسطيني،

ولا ترى في الأمة سوى خزينة مفتوحة، تُموِّل مشروع رجلٍ جعل من دعم العدوان الصهيوني أحد أعمدة بقائه السياسي .

 

ولم تكن نواياه خفية … بل كانت مدوّية .

في تصريحاته الأخيرة، لم يُجامل ترامب أحداً، ولا اختبأ خلف دبلوماسية الكلمات .

 

قدّم إسرائيل كأولوية مُطلقة، وجعل من دعمها حجر الأساس في رؤيته للشرق الأوسط، وفي اللحظة نفسها، كان يُفاخر بصفقات تقدر قيمتها بأربعة ألف مليار دولار أبرمها مع دول الخليج، وكأن المال العربي بات مكافأة مجانية لمن يرفع راية الاحتلال .

 

لم يخجل، ولم يُحرج نفسه.

ربط الأموال الخليجية بالمصالح الأميركية الصِرفة – بلا مواربة، بلا حياء سياسي، ولا حتى ورقة توت ديبلوماسية .

 

نحن لسنا ضد المصالح، فـ”منطق المصالح ” مفهوم في عالم السياسة … لكن أن تُموَّل من خزائن الأمة العربية بهذا السخاء، دون مقابلٍ حقيقي، ودون أدنى إعتبار لقضيتها المركزية – فلسطين – فتلك ليست مجرد سابقة، بل انزلاقٌ استراتيجي قد يُدفع ثمنه تاريخياً .

 

مصر العروبة … 

الشريك الغائب في زمن القسمة

 

في ذروة هذا “ الكرنفال التريليوني ”، حيث تُوزَّع الثروات كالغنائم، ويُعاد رسم خرائط النفوذ بأقلام المال، يطفو السؤال الكبير …

أين مصر ؟

 - أين مصر التي كانت درع الخليج وسيفه حين اشتد الخطر ؟

 - أين مصر التي خاضت معارك السياسة والجغرافيا للدفاع عن أمن الأمة من المحيط إلى الخليج ؟

 - أين مصر، التي لا تُقاس فقط بموقعها وحدودها، بل بثقلها الحضاري، وعمقها السكاني، ووزنها التاريخي والاستراتيجي ؟

 

كيف تُدار صفقات بآلاف المليارات، وتُفتح الطاولات وتُغلق، دون أن يُترك لمصر مقعد يليق بتاريخها … ولا حتى مشورة تُستأنس بثقلها ؟

 

إن تغييب مصر في هذه اللحظة، ليس مجرد تجاهل بروتوكولي … بل هو كسرٌ صامت للمعادلة العربية، وشرخ في ميزان القوة الذي لطالما ارتكز – حين كان عاقلاً – على القاهرة .

 

إن غياب مصر عن هذه التفاهمات الاقتصادية الكبرى ليس تفصيلاً هامشياً، ولا مجرد نقصاً في النصيب، بل هو مؤشرٌ خطير على ولادة مشهد عربي جديد …

مشهد يُعاد فيه تعريف العروبة بمنطق السوق لا بمنطق المصير، وبمعيار الصفقة لا بمعيار التاريخ .

 

فحين تُهمَّش مصر – بكل ما تمثله من مركزية حضارية وعمق استراتيجي – فهذا يعني أن البوصلة لم تعد تقيس الأوزان بميزان الأمة، بل بميزان التسهيلات والامتثال .

 

وهنا الخطر :

 أن تتحوّل العروبة من رابطة مصير إلى “ ماركة سياسية ” تُباع وتُشترى … بلا ذاكرة، وبلا ضمير ،

 

بين القوة الناعمة … 

والواقعية المشوّهة

 

صحيح أن لغة المصالح تحكم عالم اليوم، وأن الواقعية السياسية تفرض شروطها بصرامة، لكن تغييب مصر ليس خياراً ذكياً … ولا يخدم أحداً .

 

لا يخدم الخليج، الذي يحتاج دائماً إلى توازن يضبط الانفعالات ويكبح المغامرات، ولا يخدم واشنطن، الباحثة عن وكلاء إقليميين بثقل حقيقي لا بلمعان طارئ، ولا حتى إسرائيل، التي قد تكتشف – متأخرة – أن تهميش القاهرة يوقظ وعياً عربياً كان نائماً تحت ركام الصفقات .

 

مصر لم تكن يوماً دولة تطلب مكرمات، ولا طامعة في الهِبات، بل كانت دائماً صاحبة مشروع قومي جامع، وإن تعثّرت أدواته حيناً، لم تتغيّر بوصلته يوماً .

 

ومهما ظنّ البعض أنها غابت، فإنها تظل – شاءوا أم أبوا – اللاعب الأكثر رسوخاً في ميدان التوازنات، والميزان الذي يُعيد للعقل وزنه حين يجنّب الساحة العربية مزالق الانفعال والاستتباع .

 

دروس التريليونات … 

ومكر الجغرافيا

 

إذا كانت سنوات “ الربيع العربي ” قد علّمتنا أن تغييب العقل العربي الجامع لا يُنتج إلا الفوضى، فإن صفقات التريليونات الجارية اليوم يجب أن تُعلّمنا أن تغييب مصر عن المعادلات الكبرى، ليس مجرد غفلة، بل خللٌ استراتيجي لا يمكن للنظام العربي أن يصمد أمامه طويلاً .

 

التاريخ لا يُلغى بالصفقات .

والجغرافيا لا تُعاد كتابتها بشيكات .

ومهما لمعَ بريق اللحظة، فإن المدى البعيد سيظل بحاجة إلى عقلٍ مركزي، ووزن حضاري، وبوصلة لا تهتز … وكلها معانٍ لا تزال تسكن في القاهرة .

 

فأي منطقٍ هذا … 

تُنفق فيه التريليونات على مشاريع لا تخدم وجدان الأمة، ولا تصون مستقبلها، بينما تُقصى مصر عن مائدة القرار، وتُترك غزة تنزف وحدها في مواجهة الإبادة ؟

 

أي ميزان أعوج ذاك الذي يُكافأ فيه ترامب بذهب الخليج، رغم أن يديه ملوثتان بدعمٍ سافرٍ لآلة القهر الصهيوني ؟

 

إنه مشهد تختلط فيه الطفرة بالتفريط، والاستثمار بالتخلي، والمال بالخسارة الأخلاقية …

مشهد يقول الكثير عن أزمة الوعي، أكثر مما يقول عن فائض المال .

 

رسالة إلى من يملك القرار…

 

نقولها بوضوح لا يُلتبس :

المال العربي ليس رصيداً مجانياً في يد رئيس أميركي حالي، ولا يجب أن يتحوّل إلى غطاء سياسي لتبييض دعمٍ علني للاحتلال، ولا إلى أداة تُقصى بها مصر العروبة والحضارة والتاريخ، من خرائط القرار العربي .

 

ترامب لم يَعُد يروّج لوعود انتخابية،

بل يمارس سلطته من موقع الرئاسة، ويُعيد تشكيل خرائط النفوذ بثقل المنصب لا بأحلام العودة .

 

فإما أن يُدار المال العربي بمنطق السيادة المشتركة، أو يُسجّل التاريخ أن الأمة موّلت مشروعاً لم تكن شريكاً فيه … ولا رابحة من ورائه .

 

إن التريليونات التي تتدفّق اليوم ليست مجرد أرقام … 

بل مسؤولية .

رأسمال سيادي عربي، لا بد أن يُدار بعقل جماعي، ويُوظف في خدمة المشروع العربي الكبير، لا في خصم رصيده .

فإذا غاب عن تلك الأموال ضمير الأمة، فلا يبقى منها سوى ضجيج الصفقات … وصدى التقصير والخسران المبين .

 

كلمة أخيرة : 

مصر لا تطلب … بل تُفرض بحضورها

 

في زمن تُقاس فيه السيادة بالأصفار، وتُوزَّع فيه القرارات بميزان المصالح اللحظية، يجب أن يتذكّر الجميع أن مصر ليست بنداً يُضاف أو يُحذف من قوائم الشركاء .

 

مصر ليست خياراً ظرفياً …

بل ركنٌ ثابت من أركان البيت العربي، لا يُبنى بدونه سقف، ولا تستقيم بدونه خرائط التوازن .

 

هي الاسم الذي لا يمكن شطبه من المعادلة دون أن تختل المعادلة نفسها، والوزن الذي لا يُهمَّش دون أن يفقد الإقليم ثقله، والحضور الذي لا يستأذن … 

لأنه من نسيج التاريخ ومفاصل الجغرافيا .

Keywords:

0 Comment

Add Your Comment

Back Top