شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
ليست كل الحروب ما تُرى بالعين المجردة، فثمّة معارك تُخاض في الظل، بأسلحة لا صوت لها، وقنابل تنفجر داخل العقول لا على الأرض .
في الصراع الإيراني – الإسرائيلي الذي بلغ ذروة غير مسبوقة، لم تعد السماء وحدها مسرح الاشتباك، بل دخلت دهاليز الأمن ودهشة المعلومة على الخط، لتصبح العملية الاستخباراتية هي اللاعب الحاسم في قلب الصراع .
ففي وقتٍ كانت فيه طهران تبني عقيدتها الأمنية على “ الردع من الخارج ” و” الحماية عبر الوكلاء ”، كانت إسرائيل تعمل بصمت على اختراق أعصاب الدولة من الداخل .
جواسيس، عملاء نائمون، طائرات درون تُسيّر من الأرض الإيرانية، ومراكز استخبارية تغلغلت حتى داخل الحرس الثوري … كلها عناصر كشفت أن الجدار الحديدي الإيراني لم يُهدم من الخارج، بل تصدّع من الداخل .
لم تعد تل أبيب تستهدف مواقع نووية أو منصات إطلاق، بل تستهدف فكرة الدولة المحصّنة نفسها، وتشعل النيران في قلب منظومتها الأمنية والعسكرية، وتربك هندسة الرد . وبذلك، تغيّر وجه الحرب من “ مواجهة بين دولتين ” إلى صراع وجودي بين عقلين خفيين، حيث لا ينتصر الأقوى عدداً وعتاداً، بل الأذكى قدرة على التسلل، وعلى قنص لحظة الانهيار من تحت الرماد .
اليوم، بات الاختراق الإسرائيلي للمنظومة الأمنية الإيرانية هو العنوان الخفي لأخطر مراحل الصراع، فالمعركة لم تعد “ من طهران إلى تل أبيب ”، بل من “ عمق القرار الإيراني إلى خارطة النفوذ الإقليمي ”، حيث كل معلومة تُسرّب، وكل عالم يُغتال، وكل منشأة تُصوَّر من الداخل، تغيّر خارطة الشرق الأوسط .
هذه ليست حرباً عادية .
إنها حرب من الداخل … حرب على جدار الوعي والسيادة والأمن القومي، حيث من يسقط أولاً، هو من لم ينتبه أن الحصار بدأ من خلف أبوابه المغلقة .
كيف اخترقت إسرائيل العمق الأمني الإيراني ؟
هندسة الانهيار من الداخل … عندما تتحوّل
الدولة إلى ساحة عمليات بلا خارطة ولا إنذار
لم يكن ما فعلته إسرائيل في الداخل الإيراني مجرد نجاح استخباراتي عابر، بل كان عملية تفكيك استراتيجي طويلة النفس، أعادت تعريف الحرب الحديثة بمعناها الخام :
الانتصار بلا معارك، والانهيار بلا إنذار .
في الوقت الذي انشغل فيه النظام الإيراني ببناء شبكة نفوذ خارجية تمتد من بغداد إلى صنعاء، من دمشق إلى لبنان، كانت إسرائيل تُعيد رسم حدود الاشتباك من الداخل الإيراني ذاته، وتخوض أعمق عملية تغلغل استخباراتي في تاريخ الصراع الإقليمي المعاصر .
ما حدث لم يكن فعلاً تكتيكياً، بل هندسة أمنية معقدة اعتمدت على أربع أدوات استراتيجية متداخلة، عملت بهدوء على تفكيك البنية العصبية للنظام الإيراني دون أن تُحدث ضجيجاً، وبتكلفة أقل من طلقة واحدة :
أولاً: بناء الجسور مع “ الخلايا الصامتة ” داخل الدولة
نجح الموساد في الوصول إلى بيئات إيرانية نُظر إليها تاريخياً كمغلقة ومُحصّنة، خاصة داخل الحرس الثوري ووزارة الاستخبارات .
لم يكن ذلك عبر الإكراه فقط، بل من خلال بناء سردية معاكسة داخل النظام ذاته :
الانقسام السياسي، خيبة الأمل من الداخل، والرغبة في كسر الحلقة الجهنمية للسلطة. وهكذا، لم يعد “ العدو ” يخترق الحدود … بل بات يتحرك من داخل “ البيت الثوري ” نفسه .
ثانياً : السيطرة على فضاء الدولة عبر السيادة السيبرانية
بمستوى لا يقل عن المعارك الجوية، نفذت إسرائيل هجمات سيبرانية شلّت منظومات القيادة والتحكم، وأخضعت مراكز حساسة للمراقبة والاختراق .
تسريبات نطنز، تفجير بارشين، وتعطيل خطوط تخصيب اليورانيوم، كلها كانت نتائج مباشرة لحرب سيبرانية استباقية جعلت من مفهوم السيادة الإيرانية مجرد قشرة رقيقة يمكن اختراقها بزرّ في تل أبيب .
ثالثاً : الاغتيال الذكي كسلاح نفسي واستراتيجي
اغتيال قادة كبار من الصف الأول، أبرز علماء الذرة، قادة وحدات سرية، مسؤولون عن البرنامج الصاروخي، رجال ظلّ لا يُذكرون في الإعلام … اختفوا أو قُتلوا في ظروف تحمل بصمة واحدة :
معرفة داخلية دقيقة، ورغبة في كسر هيبة النظام دون إعلان الحرب .
كل عملية اغتيال لم تكن فقط استهدافاً لشخص، بل نسفاً لركنٍ من أركان العقيدة الأمنية الإيرانية .
رابعاً : هندسة الفضيحة كجزء من التكتيك
لم تعد إسرائيل تكتفي بالضرب، بل تُعلن بعض الضربات عمداً، في توقيت محسوب، لتدمير صورة الدولة الحصينة. تسريبات فيديو من داخل منشآت حساسة، اعترافات عملاء على الإعلام، واختراقات تتسرب “ مصادفة ”… كل ذلك شكّل سلاحاً نفسياً هائلاً يضرب أعمدة الثقة بين القيادة والشارع، وبين النظام ونفسه .
النتيجة :
إيران لم تعد تعرف من أين تؤتى
بات النظام الإيراني مكشوفاً في ثلاثة مستويات خطيرة :
1- على مستوى القيادة :
لم يعد هناك يقين بمن هو “ الوفي ” ومن هو “ المخترق ”.
2- على مستوى الرد :
لا قدرة على انتقام مؤلم دون كشف مزيد من التصدعات .
3- على مستوى العمق الاستراتيجي :
تحوّلت طهران من مركز توجيه إلى مركز استنزاف .
وهكذا، أصبحت الدولة التي بُنيت على شعار المقاومة، هي نفسها من تُستباح في عمقها، وتُصوَّر من داخل غرف أسرارها :
أولاً : تجنيد “ الظل ”… حين يتحوّل النظام إلى شبكة متداخلة من الولاءات المتناقضة
في قلب المؤسسة التي بُنيت على السرية والولاء العقائدي، تسلّل “ العدو ” بهدوء، لا كغازٍ خارجي، بل كظلّ داخلي يعرف الزوايا المُعتمة ويُجيد التحرك بينها .
على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، لم يكن اختراق إسرائيل لمجتمع الحرس الثوري ووزارة الاستخبارات الإيرانية عملاً عشوائياً، بل مشروعاً استخباراتياً طويل الأمد استثمر في الأزمات البنيوية للنظام :
• السخط المتصاعد داخل النخبة الأمنية .
• صراعات مراكز القوى بعد غياب سليماني .
• الانقسامات الإيديولوجية الخفية بين “ المؤمنين بالعقيدة ” والمحسوبين على الواقعية البراغماتية ”.
ووسط هذا التصدع، نجح الموساد في زرع جواسيس صامتين ليسوا من “ الطبقات الدنيا ”، بل من دوائر صنع القرار نفسها .
هؤلاء لم يُجنّدوا فقط بالمال، بل عبر شبكات معقدة من التحفيز النفسي، والتهديد الناعم، والوعد بالحماية والخروج .
ولعل أبرز الأدلة على ذلك أن أدق المعلومات التي وصلت لتل أبيب لم تأتِ من الطائرات ولا الأقمار الصناعية، بل من مكاتب مغلقة داخل نطنز وفوردو وقاعدة بارشين نفسها، بل حتى من أروقة ودهاليز القيادة العليا للبلد .
لقد عرفت إسرائيل متى يُنقل جهاز الطرد المركزي، وأين يُخزّن اليورانيوم، ومن يشرف على العملية، ثم قامت بعد ذلك بإرسال رسائل الموت الصامت إلى الشخص المناسب، في اللحظة المناسبة .
الاغتيالات لم تكن مجرد تصفيات …
بل رسائل موقعة من الداخل .
كل عملية اغتيال لعالم أو خبير لم تكن فقط ضربة تكتيكية، بل دليلاً حيًاً على أن “ عيناً إسرائيلية ” كانت تحدق من داخل الغرفة المغلقة، وتبتسم قبل أن تُسحب الزناد .
بهذا الأسلوب، لم تخترق إسرائيل البنية الأمنية الإيرانية فحسب، بل حوّلتها إلى ساحة شك وارتباك وعجز مزمن … حيث لم يعد العدو خارج الحدود، بل داخل المعادلة نفسها .
ثانياً : الحضور الإلكتروني الخفي
أثبتت إسرائيل تفوقاً غير مسبوق في الحرب السيبرانية، حيث إخترقت الأنظمة الدفاعية الإيرانية بالكامل، من منظومات الرادار، إلى نظم القيادة والتحكم، وحتى مراكز الاتصال السرية بين طهران وميليشياتها في الخارج .
بل إن بعض العمليات نُفذت من خلال طائرات مسيّرة أُطلقت من داخل الأراضي الإيرانية نفسها، مما يعني وجود ممرات لوجستية سرّية داخل العمق الإيراني .
ثالثاً : الضربات النفسية – الرمزية
لم تكتفِ إسرائيل بالعمل في الظل، بل تعمدت تسريب تسجيلات مصورة من داخل منشآت نووية ومقار عسكرية حساسة، وبثها علناً، لإظهار أن “ عين إسرائيل في كل مكان ”، وهو ما شكل صدمة سيادية حقيقية للرأي العام الإيراني، ورسالة خطيرة للقيادة السياسية والعسكرية :
لا مكان آمن داخل جمهورية إيران الاسلامية .
رابعاً : حرب “ ما قبل الضربة ”
قبل كل تصعيد عسكري كبير، كانت إسرائيل تُنفذ سلسلة عمليات استخباراتية تستهدف شلّ البنية التحتية للرد :
• تعطيل منظومات دفاع جوي عبر فيروسات إلكترونية .
• استهداف مراكز القيادة والسيطرة بشيفرات مسبقة التوقيت .
• تصفية قيادات حاسمة في مسرح الرد .
وبالتالي :
حين تقع الضربة، تكون إيران قد فقدت زمام المبادرة … كأنها ترد بعد خسارتها المعركة بالفعل .
لماذا :
لأن شبكة المناعة السيادية إنهارت، والاختراق الهائل غير إيران من الداخل :
كيف ؟
• أصبحت طهران ساحة حرب غير معلنة .
• تقلصت الثقة بين القيادة والقاعدة .
• ظهرت التصدعات داخل بنية النظام الأمني، لا بفعل الضغط الخارجي، بل بفعل التشظي الداخلي .
كيف أثّر هذا الاختراق في شكل الحرب الحالية ؟
1- تحييد الردع الإيراني قبل الهجوم
أدت العمليات الاستخباراتية إلى تعطيل أكثر من 50% من الدفاعات الجوية في طهران وأصفهان وبندر عباس، مما سمح للطائرات الإسرائيلية بشن أكثر من 200 غارة دون خسائر تُذكر .
كان هذا أشبه بفتح بوابات الحصن من الداخل .
2- إرباك القيادة الإيرانية وتباطؤ في الرد
عقب الضربة، استغرق الرد الإيراني أكثر من 18 ساعة للتنظيم، والسبب كما أشارت تقارير استخباراتية :
شلل مؤقت في القيادة الأمنية والعسكرية، نتيجة الاشتباه بوجود خونة أو عملاء داخل غرف القرار .
3- إحباط الوعي الشعبي والنخبوي
منذ الهجمات، تُظهر تقارير داخلية أن الثقة في “ مناعة النظام ” تراجعت في الشارع الإيراني، خاصةً بعد بث وسائل إعلام إسرائيلية مقاطع مصورة من داخل منشآت نووية قبل الهجوم، ما عمّق الشعور بالهشاشة السيادية .
أبعاد استراتيجية
عميقة لهذا الاختراق
أولاً : تحول في قواعد الاشتباك
للمرة الأولى، تتمكن إسرائيل من فرض معادلة ما قبل الردع، أي مهاجمة إيران داخل حدودها بينما تمنعها من الرد الفعّال، نتيجة ضرب قواعد الانطلاق والأنظمة الدفاعية قبل أن تبدأ المعركة .
ثانياً : انهيار جزئي للعقيدة الأمنية الإيرانية
يعتمد الأمن الإيراني على مبدأ “ العمق الاستراتيجي ” عبر الوكلاء، لكن هذا الاختراق نسف هذه المعادلة عبر تقويض العمق الداخلي نفسه .
ثالثاً : توجيه رسائل إقليمية
أثبتت إسرائيل أن الحصون الإيرانية قابلة للاختراق، مما يبعث برسالة صامتة – لكن قاسية – إلى حزب الله والحشد والحوثيين : “ لا حصانة لأي حليف ”.
الانعكاسات على مآلات الصراع
1- الرد الإيراني في المستقبل :
معضلة التوازن بين الصدمة والاختراق
في ظل التصعيد المتسارع، تدرك إيران أن أي رد عسكري جديد يحمل في طيّاته مخاطرة مزدوجة ؛ فمن جهة، هي بحاجة لاستعراض قدرتها على الردع واستعادة هيبتها الإقليمية، ومن جهة أخرى، كل تحرك هجومي يكشف تلقائياً مزيداً من البُنية العملياتية والأمنية التي باتت مُخترقة بشكل خطير .
بعبارة أوضح :
إيران اليوم تقف أمام معضلة استراتيجية حادّة إذا امتنعت عن الرد، تُفقد تدريجياً ورقة الردع وهيبتها أمام الداخل والخارج .
أما إذا ردّت، فهي تُجبر على تحريك أدواتها العسكرية والاستخباراتية، وهو ما يفتح الباب أمام مزيد من الرصد، الاختراق، وربما الضربات الاستباقية من خصومها .
2- فتح الباب أمام موجة تمرد داخل النظام :
تقارير عن انقسامات بين الحرس الثوري ووزارة الاستخبارات بدأت تظهر، ما يهدد استقرار القرار العسكري .
3- خسارة إيران لمعركة الوعي الدولي :
الظهور بمظهر الدولة المخترقة والمرتبكة يُفقد طهران الكثير من أوراقها في ساحات المفاوضات والردع .
الخلاصة :
حين يتحوّل الجدار إلى سراب …
والمعلومة تصبح أقوى من الصاروخ
ما يجري اليوم في العمق الإيراني يتجاوز حدود العمليات الأمنية الكلاسيكية ؛ إنه تفكيك منظّم لأعمدة الردع من الداخل، باستخدام سلاح صامت لكنه قاتل :
المعلومة في لحظة القرار .
الاختراق الإسرائيلي للأمن الإيراني لم يُصمّم فقط لتصفية العلماء أو تخريب المنشآت، بل لهدم مفهوم الحصانة السيادية من أساسه .
وهذا يجعل من تحوّل الجدار، الذي طالما رُوّج له كخط حماية إقليمي، إلى وهم استراتيجي مكشوف .
بينما يتبادل الطرفان الصواريخ والتهديدات في العلن، تُحسم المعركة الحقيقية في الخفاء، داخل غرف الاستخبارات، حيث الرصاصة الأولى ليست بندقية، بل معلومة دقيقة، تصل في التوقيت الذي يغيّر المعادلات .
لقد دخل الصراع مرحلة يصبح فيها الأمن الداخلي لإيران هو الحلقة الأضعف، والكثير من جدرانها قد لا تسقط بصاروخ، بل بسلسلة متقنة من الاختراقات، تجعل قرار الرد نفسه … قراراً مكشوفاً، محسوباً،مرصوداً، من قبل الخصم .
أخيراً :
الاختراق الإسرائيلي للعمق الأمني الإيراني كشف عن مرحلة جديدة من الصراع، حيث الحروب لم تعد تُخاض فقط بالسلاح، بل بالذكاء والدهاء والهندسة الاستخباراتية .
والسؤال الأخطر الآن :
هل تستوعب طهران الدرس وتعيد ترتيب منظومتها الأمنية الداخلية ؟
أم أن الجدار سيسقط بصمت، قطعةً بعد أخرى، من الداخل …
بينما الجميع مشغول بالصراع في الخارج !!!
0 Comment