مصطفى بن خالد
شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
لم يكن نهر النيل في يوم من الأيام مجرّد مجرى مائي عابر للجغرافيا، بل هو الامتداد الحيّ للهوية المصرية، وسِفرها المفتوح منذ فجر الحضارة وحتى اليوم .
هو ليس مجرد نهر؛ بل وعيٌ تاريخي، ومكوّن سيادي، وسِياجٌ وجوديّ تدور حوله معادلات الدولة المصرية :
من بناء الهرم إلى حماية الأمن القومي، ومن الزراعة إلى الاستراتيجية .
لقد خطّت مصر على ضفافه أولى رسائلها إلى العالم، حين كتبت بالحرف والمحراث معاً، حين علّمت العالم كيف تُبنى دولة على نهر، وكيف يُحوّل مجرى الماء إلى شريان حياة، وعمق جغرافي، ونواة للنفوذ الإقليمي .
واليوم، في قلب صراع مائي – سياسي شديد التعقيد، تحاول إثيوبيا عبر مشروع “سد النهضة” إعادة تشكيل قواعد الاشتباك في حوض النيل، خارج إطار القانون، وفوق خرائط الاتفاقيات، وبمعزل عن الحق التاريخي لدولة المصب .
وهكذا يتحوّل النيل، من شريان حضارة، إلى ميدان صراع سيادي، تتجاوز فيه رهانات التنمية إلى رهانات البقاء .
لقد أصبح النهر عنواناً لمعركة كبرى، عنوانها ليس فقط “المياه”، بل “الهيمنة من المنبع” و” السيادة عند المصب ”.
إنها ليست قضية حصة مائية فحسب، بل معركة شرعية سياسية، وحقوق تاريخية، وملف استراتيجي يعكس توازنات القوة في الإقليم .
وفي ظل تعنت إثيوبي، وغياب إرادة دولية حاسمة، وإصرار مصري على صون الحق ومنع المساس بالثوابت، تتكثف ملامح المشهد :
معركة السيادة والمصير بدأت، ولن تكون فيها مصر سوى حارسة للنيل … لا مستسلمة عند المصب .
لكنّ هذه السيادة الراسخة، الممتدة منذ آلاف السنين، لم تكن يوماً عرضة للتحدي كما هي اليوم، إذ تواجه مصر واحدة من أخطر محاولات زعزعة استقرارها الجيوسياسي عبر مشروع “سد النهضة” الذي شرعت إثيوبيا في تشييده منذ أكثر من عقد، خارج الأطر القانونية، وبمنطق فرض الأمر الواقع، دون إتفاق مُلزم أو منظومة مشتركة تحكم تشغيله وعدالة ملئه .
إن ما بدأ كمشروع لتوليد الكهرباء سرعان ما تحوّل إلى أداة جيواستراتيجية لإعادة هندسة ميزان القوى في حوض النيل، متجاوزاً حقوق دول المصب، ومتعدياً على قواعد القانون الدولي التي تجرّم الإجراءات الأحادية في الأنهار الدولية .
وهكذا، لم يعد النيل مجرد شريان حياة، بل بات ساحة صراع مفتوح، تُختبر فيها حدود السيادة المصرية، ويُقاس من خلالها مدى قدرة الدولة على صون حقوقها التاريخية في زمن تُصاغ فيه السياسات بضغط الجغرافيا، لا بمنطق العدالة .
إنها معركة تتجاوز المياه إلى جوهر الحق، وتلامس جوف الأمن القومي في لحظة فارقة من صراع البقاء، حيث يُستدعى التاريخ، وتُختبر خيارات الرد، وتُعاد صياغة سؤال المصير .
أولاً : النيل ليس مورداً مائياً … بل جذر الهوية والسيادة
الحديث عن نهر النيل بوصفه “مجراً مائياً مشتركاً ” لا يُجسّد سوى تبسيط مخلّ، وتوصيف مجحف لعلاقة مصر بهذا الشريان الأزلي .
فالنيل، في الوعي الجمعي والوجدان الوطني، ليس مجرّد ماء يجري في الجغرافيا، بل هو الذي جرى في عروق الدولة نفسها، وشكّل عمقها السيادي، ومعمارها الحضاري، وأطرها المفاهيمية منذ أن وُجدت الدولة على ضفافه .
إنه ليس مورداً طبيعياً يُدرَس في كُتب الجغرافيا السياسية، بل كيان وجودي كُتبت عليه مصر، وبه كتبت تاريخها .
من انسياب أول قطرة، إلى كتابة أول سطر، كان النيل الذاكرة التي لم تُمحَ، والحدّ الذي لا يُمسّ .
ولذلك، فإن أي محاولة لفصل النهر عن سياقه التاريخي، أو اختزاله في حسابات هندسية أو مشاريع طاقة، هو تجريد لمصر من أحد أعمدتها التكوينية، ومساسٌ بجوهر سيادتها، وتعدٍّ على رمز من رموز استقرارها .
فالنيل لم يكن يوماً “ مورداً مشتركاً ”، بل كان دوماً “هوية وطن”، تُرسم به خرائط القرار، وتُصاغ عنده حدود الردّ .
ولأن القانون الدولي لا يُبنى على النوايا، بل على السوابق والمكتسبات، فإن الحصة المصرية من مياه النيل ليست منحة عارضة ولا امتيازاً ظرفياً، بل حقٌ مكتسب راسخ، أقرّته اتفاقيات دولية متعددة، بدءاً من معاهدة 1902، مروراً باتفاقيتي 1929 و1959، التي وثّقت بالأرقام والخرائط والنصوص القانونية، حجم الحصة المصرية وأكدت سيادتها على تدفق النهر .
هذه الاتفاقيات ليست أوراقاً قديمة يُعاد التفاوض عليها، بل وثائق ملزمة في القانون الدولي، صدّقتها دول كانت قائمة، ووقّعتها حكومات شرعية، وبُنيت عليها سياسات مائية طويلة الأمد، وخطط تنمية متكاملة .
إن مصر تعتمد على النيل بنسبة تتجاوز 97% من احتياجاتها المائية، ما يجعل أي مساس بتدفقه ليس مجرد “ضغط”، بل تهديداً وجودياً يُقوّض قدرة الدولة على الحياة، ويضع استقرارها الاجتماعي والاقتصادي في مهبّ أزمة مستدامة .
وعليه، فإن الدفاع عن هذه الحصة لا يدخل في باب التفاوض، بل في صلب السيادة، وصيغة البقاء، وحدود الأمن القومي .
ثانياً : إثيوبيا وسد النهضة … مشروع طاقة أم أداة سيطرة ؟
عندما أعلنت إثيوبيا في عام 2011 عن شروعها في بناء “سد النهضة”، أحاطت المشروع بخطاب تنموي مُنمّق، وقدّمته للعالم كضرورة اقتصادية وطنية لتوليد الكهرباء وتحقيق التنمية المستدامة .
غير أن سلوك أديس أبابا السياسي والفني منذ ذلك الحين، سرعان ما كشف الوجه الحقيقي للمشروع :
هندسة سياسية متنكرة في عباءة الطاقة، ومناورة سيادية تستهدف إعادة تشكيل ميزان القوة المائية في الإقليم .
لقد تجاوز السد في مضمونه حدود البنية التحتية، ليُصبح مشروعاً لإعادة تعريف العلاقة بين دول المنبع والمصبّ، من علاقة شراكة وتكامل، إلى علاقة تبعية وفرض إرادة، في خرق صارخ لكافة الاتفاقيات الدولية، ومبادئ القانون الدولي للأنهار العابرة للحدود .
وما زاد المشهد خطورة، هو الإصرار الإثيوبي على المضي في مسارات الملء الأحادي، ورفض التوقيع على اتفاق قانوني مُلزم، مما أكد أن الغاية الحقيقية ليست التنمية، بل صناعة نفوذ مائي يُمكّن أديس أبابا من التحكّم بمصير شعوب أخرى، واحتكار مورد وجودي ليس لها وحدها .
إن سد النهضة، بهذا المعنى، لم يعد مشروعاً لتوليد الكهرباء، بل أصبح منصة استراتيجية لإنتاج أزمة إقليمية طويلة الأمد، تستهدف تقويض السيادة المائية لدولتي المصب، وزعزعة الاستقرار الجيوسياسي في قلب وادي النيل .
لقد دأبت أديس أبابا، منذ اللحظة الأولى، على انتهاج سياسة المراوغة والمماطلة، رافضةً بإصرار التوقيع على أي اتفاق قانوني مُلزم ينظّم قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، وكأنها تسعى عمداً لإبقاء نهر النيل خارج مظلة القانون، وخارج منظومة الضوابط الدولية .
وبدلاً من الالتزام بمبدأ التفاوض المسؤول، إختارت إثيوبيا طريقاً أحادياً صدامياً، ومضت في تنفيذ ثلاث مراحل متتالية من الملء دون أي تنسيق مع دولتي المصب، مصر والسودان، في سابقة خطيرة لا تستهدف فقط فرض أمر واقع، بل تسعى إلى ترسيخ منطق “ السيادة المطلقة على النهر ”، في انتهاك صارخ لمبادئ القانون الدولي للأنهار العابرة للحدود .
لقد تجاهلت إثيوبيا عن عمد ثلاث ركائز أساسية تحكم السلوك الدولي في مثل هذه الحالات :
مبدأ عدم الإضرار، ومبدأ الإخطار المسبق، ومبدأ الاستخدام العادل والمنصف، وكلها أعمدة قانونية راسخة أقرتها اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 بشأن استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية .
إن ما تفعله أديس أبابا ليس مجرد إخلال فني، بل نسف ممنهج لقواعد العدالة الدولية، وتقويض لبنية الثقة بين دول الحوض، ومحاولة لخلق واقع استراتيجي جديد يجعل من إثيوبيا الطرف المهيمن على مصدر الحياة في وادي النيل .
ثالثاً : مصر والسودان … شراكة مصيرية في وجه هندسة الهيمنة
رغم تباين المقاربات السياسية والتكتيكات الظرفية بين القاهرة والخرطوم في بعض المحطات، إلا أن الثابت الجغرافي والمصيري لا يتغير
: كلا الدولتين تقفان في مواجهة خطر استراتيجي مشترك ينبعث من السد الإثيوبي، لا بوصفه مشروعاً مائياً، بل كأداة محتملة لإعادة تعريف السيادة في حوض النيل .
فالسودان، كدولة مصبّ أساسية، لا يقل اعتماداً على النهر عن مصر، وأي خلل في منظومة تدفق المياه، أو غياب للتنسيق حول التشغيل والملء، لا يهدد فقط استقرار القطاعات الزراعية والريفية، بل يضرب في عمق السيادة الوطنية، ويضع البنية المائية والاقتصادية للدولة على حافة التآكل .
ولهذا، فإن الشراكة المصرية –السودانية في هذا الملف لم تعد خياراً دبلوماسياً، بل ضرورة جيوسياسية حتمية، تُبنى على المصير المشترك، والمصلحة المائية المتشابكة، والتحدي الوجودي الموحد .
وقد تجلّى ذلك في السنوات الأخيرة عبر تنسيق عسكري متقدّم، ومواقف سياسية متناغمة، وتصريحات مشتركة تُدرك حجم الخطر، وتعلن بوضوح أن أي مشروع يتجاهل حقوق دولتي المصبّ، هو وصفة صريحة لزعزعة الاستقرار الإقليمي .
إنها ليست تحالفاً تقليدياً، بل جبهة دفاع عن الحق والسيادة، في وجه مشروع فرض الإرادة من منبع النهر إلى مصبّ المصير .
من هذا الإدراك العميق لوحدة المصير، جاء التقارب المصري –السوداني في السنوات الأخيرة كترجمة واقعية لحقيقة جيوسياسية لا تقبل الإنكار :
أن بقاء الدولتين مرتبط بعدالة تدفق النيل، وأن مواجهة مشروع السد الإثيوبي لم تعد مجرد ملف فنّي أو تفاوضي، بل قضية أمن قومي من الطراز الأول .
وقد انعكس هذا الوعي العميق بالمصير المشترك في ممارسات ملموسة، تمثّلت في مناورات عسكرية مشتركة تحمل رسائل ردع واضحة، وبيانات استراتيجية تؤكد وحدة الموقف، وتنسيق متنامٍ بين القاهرة والخرطوم، رغم تعقيدات المشهد الداخلي السوداني وانشغاله بحرب أهلية طاحنة تعصف بمؤسسات الدولة .
ففي ذروة هذا الانقسام، ظل ملف النيل بنداً ثابتاً على طاولة الدفاع والخارجية وأجهزة الأمن القومي في البلدين، باعتباره قضية تتجاوز اللحظة السياسية العابرة، وتمس جوهر السيادة والاستقرار الإقليمي .
إن التحوّل في طبيعة هذا الملف من حقل الاختصاص إلى فضاء السيادة، يعكس حجم التهديد القائم، ويدلل على أن مصر والسودان، برغم اختلاف الرؤى أحياناً، يدركان أن مجرى النهر هو في جوهره مجرى سيادة لا يُترك لمعادلات فرض الأمر الواقع .
رابعاً : مصر ورسائل الردع … الصبر هنا ليس ضعفاً بل حكمة قوة
مصر، الدولة التي تُدرك جيداً موقعها وثقلها في معادلة الإقليم، لم تخض هذه المواجهة بانفعال أو ارتجال، بل اختارت منذ اللحظة الأولى أن تمارس الصبر الاستراتيجي المحسوب، دون أن تتنازل عن حق أو تفرّط في سيادة .
ففي مقابل التعنت الإثيوبي والانزلاق إلى منطق الفرض الأحادي، ردّت القاهرة بعقلانية القوة، وقدّمت نموذجاً متّزناً في إدارة أزمة وجودية، لم تنفصل لحظة عن وعي الدولة بحدود الرد، وعمق الخطر، ومسؤولية التوقيت .
راهنةً على أدوات القانون الدولي، والدبلوماسية متعددة المسارات، والتفاوض كخيار أول لا وحيد، أثبتت مصر أن الهدوء لا يعني الغفلة، وأن التريّث ليس مرادفاً للتراجع، بل هو تعبير عن ثقة الدولة بذاتها، وقراءتها الدقيقة لتوازنات الردع ومفاتيح القرار .
وفي خلفية هذا الصبر، بقيت كل رسائل الردع الاستراتيجي حاضرة :
من التأكيد المتكرر على الخطوط الحمراء، إلى التلميح بأن المساس بمياه مصر ليس مجرد استفزاز، بل فعل عدائي سيُقابَل بما يوازيه من حسم .
لكن هذا الصبر لم يكن يوماً يعني الاستسلام، بل كان رسالة ردع محسوبة، تُكتب بلغة القوة الصامتة، وتُفهم ضمنياً قبل أن تُقال صراحة .
فمصر، وهي تُراكم أوراقها وتُراقب بدقة مسارات الأزمة، كانت تُمهّد لمعادلة مفادها أن كل الخيارات مفتوحة، وأن الصمت لا يعني القبول، بل الإعداد .
وقد عبّر الرئيس عبد الفتاح السيسي عن هذه المعادلة بوضوح استراتيجي غير مسبوق، حين قالها بلا مواربة :
“ المساس بمياه مصر خط أحمر … وسيؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار في المنطقة لا يتخيلها أحد .”
ليست تلك مجرد عبارة إنشائية، بل إعلان سيادي مُغلف بالحكمة، موجّه للعالم بأسره، يؤكد أن الدفاع عن شريان الحياة لا يُدار بالتصريحات، بل تُحدّده الضرورة، وتضبطه الحسابات، وتحسمه الدولة متى وجدت أن الوقت قد حان .
إنها معادلة بسيطة :
الدفاع عن النيل دفاع عن وجود الدولة .
خامساً : المجتمع الدولي وصمته المريب … بين غياب الإرادة وتوظيف الأزمة
في خضم هذا التصعيد الذي يهدد أمن المنطقة واستقرارها، اختار المجتمع الدولي موقف المتفرّج السلبي، مكتفياً بدعوات عامة وعبارات دبلوماسية فضفاضة لا ترتقي إلى مستوى حجم التهديد والدماء التي قد تُسفك .
بل إن الأزمة، بدلاً من أن تحفّز الدول الكبرى على تحمّل مسؤولياتها، أصبحت ساحة لتوظيف النزاع ضمن صراعات جيوسياسية معقدة، حيث تراقب القوى العظمى النهر كمورد يُستغل ورقة مساومة في لعبة النفوذ الإقليمي، وليس كقضية حياة وأمن لشعب يزيد عددُه على مئة مليون مصري .
هذا الصمت الدولي لا يمر مرور الكرام في القاهرة والخرطوم، بل يُقرأ كإشارة خطيرة تُعمّق إحساس الغبن، وتُكرّس وجدان الدولة والشعب بأن الدفاع عن النيل هو مسؤولية وطنية قبل أن تكون قضية دبلوماسية .
إن غياب الحزم الدولي أمام التعنت الإثيوبي لا يُضعف فقط فرص التوصل إلى حل سلمي مستدام، بل يغذي مناخاً متصاعداً من انعدام الثقة، ويشجع على تكريس المواقف الأحادية التي قد تجر المنطقة نحو أزمات وأحداث أكثر حدة وتعقيداً .
وفي هذا السياق، لا يمكن لأي طرف أن يكون بمنأى عن تداعيات هذه الانزلاقات، التي قد تهز استقرار دول المنطقة وأمنها القومي .
سادساً : سيناريوهات الخطر … حين يتحوّل السد إلى سيفٍ معلّق
بعيداً عن لغة البيانات والتحذيرات الناعمة، هناك خطر مركّب يلوح في الأفق، لا يتعلق فقط بالسيادة والموارد، بل ببقاء الملايين ومصير الدول ذاتها .
سد النهضة، بسعته التخزينية الهائلة التي تناهز 74 مليار متر مكعب، ليس مجرد مشروع مائي، بل سلاح جيواستراتيجي محتمل .
ففي ظل غياب اتفاق ملزم، وغياب الشفافية الفنية، ورفض إثيوبيا إنشاء آلية تنسيق أو إنذار مبكر، يُصبح مشهد “ امتلاء السد ” بالكامل دون رقابة، محفوفاً بمخاطر وجودية لا يمكن الاستهانة بها .
الأخطر من التخزين الأحادي، هو السيناريو الكارثي الذي يحذر منه الخبراء :
انهيار مفاجئ أو خلل إنشائي أو فيضان استثنائي نتيجة نشاط زلزالي أو سوء إدارة هندسية .
في هذه الحالة، سيتحول السد من “ خزان كهرباء ” إلى “ تسونامي داخلي ”، يجتاح السودان في ساعات، ويدفع مياه الدمار نحو شمال مصر في موجة لا يمكن صدّها .
السودان سيكون الضحية الأولى، ليس فقط لقربه الجغرافي من السد، بل أيضاً لغياب القدرة على احتواء صدمة تفجّر هذه الكتلة المائية الهائلة .
ومصر، رغم بعدها النسبي، ستدفع الثمن في مياهها وزراعتها وسكانها واقتصادها، إذ سيضرب الفيضان مفاصل الحياة على ضفاف النيل .
إن إثيوبيا، بفرضها سياسة الأمر الواقع، لا تحتكر المياه فحسب، بل تحتكر الخطر، وتجعل من “ سد النهضة ” قنبلة معلّقة في قلب وادي النيل، تحت ستار التنمية، وبلا ضمانات .
وهذه ليست أزمة موارد، بل أزمة مسؤولية، وامتحان لجدّية المجتمع الدولي في منع كارثة كونية محتمَلة .
الخلاصة :
إن من لا يُلزم أديس أبابا باتفاق عادل وملزم، إنما يترك خزاناً عملاقاً فوق رؤوس الملايين، دون صمام أمان، ويُقامر بأمن مصر والسودان معاً … في أخطر مقامرة جيواستراتيجية تشهدها القارة منذ قرن .
فلا تفريط في الحق… ولا تهاون في المصير
إذ ليس لأحد أن يمنح مصر مياه النيل، كما أنه من غير المقبول أن تُترك مصائر مئات الملايين رهينة لقرارات أحادية تعيد صياغة التاريخ والجغرافيا عبر فرض الأمر الواقع .
النيل ليس ملكية حصرية لدولة المنبع، بل هو شريان حياة دولي ينسجم مع قواعد القانون الدولي ومبادئه التي تضمن العدالة والتوازن .
في معركة السيادة على النيل، لا مجال للمساومة أو التهاون، فالدفاع عن النيل دفاع عن وجود دولة، وعن مستقبل شعب بأكمله، وعن استقرار الإقليم برمته .
إن الصراع القائم لا ينحصر في خلاف حول التنمية والحرمان، بل هو مواجهة بين الشراكة التي تبني وتثري، والهيمنة التي تفرض وتفرّق؛ بين السيادة التي تحمي الحقوق، والمراوغة التي تزيّف الحقائق. ومصر، التي قدّمت للعالم نموذجاً نادراً في ضبط النفس وحكمة السياسة، تعرف تماماً متى يتحول الصبر إلى فعل حاسم، والتحذير إلى قرار لا رجعة فيه .
فنهر النيل… معركة السيادة والمصير التي لم تخذل فيها مصر إرادتها يوماً، ولم تعرف إلا الانتصار .
لأن هذا النهر العظيم لم يكن يوماً مجرد مجرى مائي، بل هو نبض حياة لأمةٍ كاملة، وذاكرة حضارة لا تُنسى، وحدّ السيادة الذي لا يقبل التفريط .
إنه معركة مفتوحة، يحكمها وعيٌ لا ينكسر، وإرادةٌ لا تُساوِم، وقرارٌ إذا فُرضت لحظته …
لا يعود بعده شيء كما كان .
0 Comment