شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
سلسلة ( 1 )
عزيزتي عفراء،
صرختك الأخيرة لم تكن صدى غضب عابر، بل كانت رصاصة فكرية أُطلقت من أعماق وطنٍ لم يعد يجد في صوته الرسمي سوى رجع أنينه .
لم تكن رسالتك مقالاً في السياسة، بل لائحة اتهام شعبية، كُتبت بلغة الأم الموجوعة لا بلغة البروتوكول العفن .
ما قلتيه ليس جديداً بمعناه، لكنه فريدٌ ببنيته، مذهلٌ بجرأته، شجاعٌ ببلاغته .
فللمرّة الأولى، نسمع خطاباً ينفذ إلى صميم الأزمة لا على سطحها ؛ يجلد الطبقة الحاكمة دون أن يغازل ضميرها الميّت، ويكاشف الناس بما تقاعس عنه إعلامٌ مؤدلج، أو مرتزق، أو مرعوب .
لكن، غير أني – كواحد من هذا الجمهور الذي التهمته النكبات حتى غدا وعيه ملغّماً بمرارة الإدراك – لا يسعني أن أكتفي بالتصفيق للغضب أو البكاء من بلاغة الخراب .
لقد تجاوزنا مرحلة الاكتفاء بالتوصيف، مهما لامس الحقيقة بجمال قاسٍ .
فالأوطان لا تُبعث من رمادها بالمراثي، ولا تنهض من تحت الركام بخطابات جلد الذات، مهما سمت .
لقد بلغنا نقطة أصبح فيها الغضب استهلاكاً عاطفياً يُمارَس لا ليغيّر، بل ليُسكّن، وصارت الحناجر تتلو خطب الهلاك لا لتستنكره، بل لتتآلف معه .
نعم، أنت محقّة .
الأئمة أطفأوا منابرهم كما تُطفأ المصابيح في بيت لا ينتظر زائراً، والشيوخ ارتاحوا في ظلال سلطات أمرٍ واقعٍ نَذرت وجودها لغير الناس، والساسة تحصّنوا في خرائط مصالحهم الضيقة، لا يخرجون منها إلا ليعيدوا رسم خيباتنا بلونٍ أشدّ قتامة .
والمكونات التي وُلدت – كما قيل – لحماية الهوية، تحوّلت إلى جُزر تتنازع على جثة وطنٍ لا يملك شهادة ميلاد جديدة .
أما العدالة، فقد اختزلها البعض في طقوس بيروقراطية، تُدار كأنها ترف إداري لا قيمة أخلاقية .
لكن ماذا بعد؟
يا عفراء عدن
هل يكفي أن نُمعن في جلدهم بحروفٍ أنهكها التكرار ؟ أن نُسرف في لعنهم، في فضحهم، في تعداد كروشهم وأموالهم ؟ أم أننا نُعيد تمثيل دور الضحية بمهارة فائقة، نصرخ كثيراً لنُخدّر ضميرنا، ثم نعود إلى بيوتنا كما كنا : ننتظر أن يُغيِّرنا أحد من الخارج ؟
أخشى أن يكون الغضب قد أصبح مهرباً أكثر منه سلاحاً، وأننا نلوذ به لا لنصنع مستقبلاً، بل لنواسي ذواتنا التي لم تعد تملك إلا الانفعال كأداة بقاء .
وأعلم أن ما سأقوله لا يُرضي الكثيرين، لكنه الحقيقة، دون زينة أو تهذيب :
المأساة التي نحياها اليوم ليست من صُنع الجلّادين وحدهم .
نحن أيضاً – بصمتنا، بعجزنا، بخيباتنا المتكررة – شركاء في إنتاج هذا الفشل التاريخي .
فالثورات التي لا تتحوّل إلى بنية سياسية، إلى مشروع، إلى مؤسسات، لا تبقى سوى ذكرى مشحونة بالعاطفة لكنها عاطلة عن الفعل .
والخطابات، مهما بلغت من عمق وبلاغة، تتحول إلى صدى في فراغ إذا لم تتحوّل إلى بنية تستوعب الواقع وتُدير الصراع .
لقد طالبنا برحيل الأنظمة، لكننا لم نبنِ بديلاً .
صرخنا من عمق القهر، وربما من براثن الترف، ثم عدنا نرتّب خيبتنا في صمت .
أما القوى السياسية، فكانت أكثر دهاء :
أحكمت قبضتها باسم أرجوز الشرعية تارة، وباسم السيادة طوراً، وباسم الدين والهوية ألف مرة، حتى أختنق الناس من كل ما يُفترض أنه يمثلهم .
نسينا أن الوطن لا يُبنى بالنيات، ولا يُحمى بالخطب، بل بالعدالة .
نسينا أن الغضب، دون عقل، لا يُغيّر، وأن النوايا، دون مؤسسات، لا تُنقذ دولة .
تقولين: “ لم نعد نملك ما نغضب لأجله ” …
وأنا أقول :
ما زال لدينا ما نخاف عليه، لكننا نحتاج لإعادة تعريف الوطن .
فالوطن ليس هذا الكيان المشوّه الذي نلعنه في العلن ونخضع له في السر .
الوطن هو ما يجب أن نخلقه من تحت هذا الركام — ليس بذخاً في الخطاب، بل ضرورة في البقاء .
إذن … ما العمل ؟
العمل يبدأ عندما نخرج من دور الضحية المتقنة الأداء، ونقبل تحدي البناء من الصفر .
عندما نكفّ عن الحنين، ونتقن صناعة البدائل .
عندما نُنبت نُخبة تفكّر لا تُتاجر، وخطاباً يُقنع لا يُهيّج، ومعارضة مدنية نزيهة لا ترتجف من ظلّ كوز الدولة المشمولة بالارتهان والتبعية، بل تصرّ على إعادة هندستها بايدٍ نظيفةٍ وضمائرٍ وطنيةٍ من جديد .
جيلٌ لا يُختطف باسم الدين أو القبيلة أو الجغرافيا، بل يُربّى على أن الكرامة أصل، والسيادة واجب، والأرض شرف، والمواطنة نواة الوجود .
الخطوة تبدأ حين نكفّ عن التعامل مع الخراب كمصير، ونعامله كعدو يجب تفكيكه، لا كهوية نُطبع معها .
نعم، التغيير يبدأ عندما نُدرك أن الحرب ليست قدراً، وأن الفساد ليس طبيعة، وأن الشعوب لا تُعظم لأنها تنهض فقط، بل لأنها تُصمّم ألا تسقط مجدداً .
إن ما نحتاجه، يا عفراء، ليس فقط أن نُسقط الأقنعة، بل أن نُنشئ جيلًاً لا يحتاج إلى ارتدائها أصلًا .
جيلاً لا يخجل من قول الحقيقة، ولا يرى السياسة نجاسة، ولا يساوم على كرامته تحت أي راية .
ذلك وحده هو الوطن الممكن، وما عداه مجرد تفاصيل في جنازةٍ طويلة .
ودمتِ… صوتاً من نار، لا رماد .
يتبع
0 Comment