شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
في لحظة عربية يتقاطع فيها منسوب الثروة مع مزاج القرار، ويتحول فيها الدعم من أخوّة إلى أداة ترسيم نفوذ، تتعرض مصر العروبة – لا بوصفها دولة فقط، بل كحالة حضارية وهوية مستقلة – لهجمة إعلامية مركّبة، تتقن التلميح أكثر من التصريح، وتخفي خلف قناع “النقد الموضوعي” نوايا إملائية تستبطن أن القاهرة لا يحق لها أن تفكر إلا تحت سقف المنحة، ولا أن تتحرك خارج نطاق التوجيه الناعم القادم من غرف التحكم المالية .
ليست هذه معركة إعلام فحسب، بل فصلٌ جديد في صراع السيادة في زمن الريال المُسيّس، حيث يُراد للكيان المصري أن يتنازل عن دوره التاريخي مقابل راحة مالية مشروطة، وأن يُعاد تعريفه ضمن خارطة نفوذ لا يعترف بها لا التاريخ، ولا الجغرافيا، ولا ذاكرة الشعوب .
فما بين تصعيدٍ محسوب من أصوات إعلامية سعودية، تختبر سقف الهجوم على رأس الدولة المصرية، وبين تصريحات متعالية لرجال أعمال إماراتيين يتحدثون بلغة “المستثمر الغاضب” لكنهم يلوّحون بمنطق الوصيّ، تجد القاهرة نفسها في قلب حملة متعدّدة الروافد، تُدار بأدوات الإعلام والاقتصاد، وتستهدف تجريدها من أثمن ما تبقّى لها في زمن الندرة :
القرار السيادي النابع من كرامة وطنية لا تُقيَّم بمعدلات التدفق المالي .
أولاً :
بعض المنصات الإعلامية التابعة للدوائر الرسمية في الرياض وأبوظبي
منذ مطلع يوليو الماضي، بدا أن وتيرة الخطاب الإعلامي السعودي والإماراتي تجاه مصر خرجت من نطاق التقييم الطبيعي إلى هندسةٍ مقصودة للضغط، تتقن اللعب على وتر الاقتصاد والسيادة معًا .
منصات يُقال إنها “خاصة” شكليًا، لكنها تتحرك بوضوح في فلك القرار الرسمي في كلٍّ من الرياض وأبوظبي، راحت تُضخّم التحديات المصرية بانتقائية متعمّدة، وتُصدر “ تنبؤات إعلامية ” عن نهاية قريبة للرئيس المصري، أو انهيار اقتصادي وشيك، وكأنها تُمهّد لجمهورها قبول فرضية الانسحاب من دعم القاهرة أو التحوّل ضدها .
نقاش إلكتروني من الرياض… مدونون سعوديون في قلب الحملة
في قلب حملة الإعلام السعودي-الإماراتي، ظهر عدد من الكتاب والمدونين السعوديين الذين تحولوا من مراقبين اقتصاديين إلى صيّاح رقميين ينتقدون السياسات المصرية علنًا وبثقل سياسي واسع. أبرزهم :
• الأكاديمي تركي الحمد، الذي وصف النموذج الاقتصادي المصري الحالي بأنه «مصر البطالة والأزمات الاقتصادية والاجتماعية»، واعتبر أن سياسات السيسي فشلت في الخروج بالاقتصاد عن سطوة المؤسسة العسكرية .
الكاتب خالد الدخيل، الذي كتب أن «السيطرة العسكرية على الدولة» منذ 1952 حالت دون وجود بديل اقتصادي أو سياسي حقيقي في مصر .
في موازاة ذلك، ظهر رجال أعمال إماراتيون على الشاشات الدولية يتحدثون عن بيروقراطية مصرية “ عقيمة ”، في لهجةٍ هجينة تجمع بين لغة المستثمر وبين نبرة المراقب السياسي .
لكن الأهم أن هذه التصريحات لم تكن بريئة التوقيت ولا عفوية النبرة، إذ جاءت في لحظة إقليمية حساسة، لتضرب في عمق صورة الدولة المصرية، وتضعها موضع المتّهم لا الشريك، وكأن المقصود ليس تقويم الأداء، بل إعادة تشكيل المعادلة السياسية بشروط أحادية لا تحتمل الكرامة .
والسؤال الذي يتجاوز سطحية الطرح ويُربك الخطاب الرسمي المنتظر هو :
هل ما نراه من انتقادات هو فعلاً نزعة إصلاحية تدعو لتحسين الأداء والمصلحة الوطنية ؟ أم أنه تجسيدٌ لمصالحة حسابات سياسية معقّدة، تتخفى وراء عباءة الاستثمار وغطاء الإعلام الموجَّه ؟
في خضم هذه المعمعة، تبدو بعض التصريحات وكأنها ليست إلا أدوات في معركة مصير تُختزل فيها مصر إلى مجرد “ سوق مفتوحة ” وميدان تجارب، تُختزل كرامتها الوطنية وتُقلّص استقلالها السياسي إلى كفّ يدٍ خارجية تطالب بالمزيد من الخضوع والتنازل .
هنا يكمن التحدي الحقيقي لمصر العروبة :
أن تحمي كرامتها من أن تُقاد إلى طقوس “ الإصلاح ” التي لا تمس جوهر القرار السيادي، ولا تفصل بين النقد الموضوعي والإملاء القسري .
ثانيًا :
حين يُوظّف الاستثمار كأداة هيمنة ناعمة
في سياقات متكررة ومكثفة، برزت تصريحات لرجال أعمال إماراتيين نافذين، يشتكون علنًا مما وصفوه بـ”الجمود الإداري المصري”، ويتحدثون عن تجارب شخصية مع مؤسسات الدولة تتضمن تأخرًا، بيروقراطية، بل و” تعاملاً غير مشجع ” – بحسب وصفهم .
لكن هذه الشكاوى لم تأتِ في اجتماعات مغلقة أو قنوات استثمارية مهنية، بل خرجت على منصات دولية كبرى، وعلى لسان شخصيات اقتصادية ترتبط تاريخيًا بصناعة القرار الإماراتي، في توقيت لا يمكن عزله عن موجة التوتر السياسي والإعلامي القائمة .
ليس من المنطقي أن تُفهم هذه التصريحات كـ”ملاحظات فنية بريئة”، وهي تُذاع على شبكات دولية، وتُعاد ترجمتها وتسويقها على نطاق واسع في صحف ومنصات ناطقة بلسان تيارات سياسية بعينها .
بل الأرجح، أنها محاولة مدروسة لتحويل النفوذ المالي إلى تفويض معنوي لمحاسبة دولة كاملة على أرضية الاستعلاء الاستثماري، في تجاوز خطير لحدود العلاقة المتكافئة بين الدولة المضيفة والشريك الاقتصادي .
ولأن مصر رفضت – ولو ضمنيًا – أن تُعامَل بوصفها “ فرعًا خارجيًا ” ضمن خرائط المال السيادي في الدول، جاء الرد عبر الإعلام، لا عبر الحوار، في مشهد يُراد فيه للاقتصاد أن يحكم السياسة، ولرأس المال أن يُعيد ترتيب أولويات السيادة الوطنية من الخارج .
ثالثًا :
مصر … الكيان التاريخي الذي لا يُدار بمنطق “ الوكالة ”
منذ اتفاقية كامب ديفيد، ورغم تعقيدات المشهد الدولي وإملاءات التوازنات الكبرى، حافظت الدولة المصرية – على اختلاف أنظمتها – على خيطٍ رفيع من التوازن بين الأمن القومي والانتماء العربي، بين الاستفادة من الدعم الخليجي وبين حماية القرار الوطني من التحوّل إلى وظيفة مدفوعة .
لكن مشهد اليوم يكشف عن نمطٍ جديد من الضغوط، يتجاوز حدود النصيحة أو حتى النقد العلني، ليدخل منطقة رمادية تُراد فيها مصر أن تتكيّف مع خرائط النفوذ الجديدة، لا باعتبارها شريكًا استراتيجيًا، بل بوصفها تابعًا يُكافَأ عند الطاعة ويُعاقَب عند الامتناع .
في هذا السياق، لم تعد التحويلات البنكية أدوات دعم مؤقت، بل صارت تُلوّح كأوراق اعتماد سياسية، يُراد لها أن تفرض منطق “ الوكالة ” على كيانٍ تاريخي لا يُدار إلا بمنظومة سيادة ممتدة، قامت قبل أن تظهر بعض العواصم المُمولة إلى الوجود .
إنه صراع بين الذاكرة والدفتر، بين الشرعية التاريخية والسطوة المالية، وبين من يملك الماضي والموقع، ومن يملك فائض السيولة في لحظة إقليمية مؤقتة .
إن مصر، بحجمها وتركيبها التاريخي، ليست كيانًا يُستأجر، ولا دولة تُدار بعقود توظيف مؤقتة تُفسخ عند أول خلاف .
هي ليست طرفًا في هامش الجغرافيا، بل قلبها النابض، وليست ملاحقًا تابعًا للمشرق، بل رافعته حين تهتز الأعمدة من تحته .
في زمن السيولة الإقليمية، حين تتغيّر الولاءات وتُشترى المواقف وتُعاد صياغة المحاور بلغة المال لا المبادئ، تظلّ القاهرة الثابت الجيواستراتيجي الوحيد، مهما اهتزّ الرمل من حولها .
هي الدولة التي يسبق اسمها لقبها، والتي لا تُدار بالتحويلات، بل بالبوصلة .
رابعًا :
الموقف المصري الرسمي… حين تتجلّى الحكمة في زمن الابتزاز
في مواجهة الحملة الإعلامية المعقدة، رفضت الدولة المصرية الانزلاق إلى ردود انفعالية تُشبه ما يُراد لها أن تكونه .
لم تُشهر سلاح إعلامها الحكومي في معارك الردح الإقليمي، ولم تنساق إلى خطاب المرآة الذي يردّ الإساءة بمثلها، بل اختارت الصمت المعبّر، والتمسك بميزان الدولة لا غريزة اللحظة .
في لحظة كان يمكن فيها تحويل كل منبر إلى منصة دفاع أو هجوم، آثرت القاهرة أن ترسّخ خطابًا داخليًا يقوم على وحدة الصف، وترميم الثقة، وتذكير المواطن بأن الكرامة الوطنية ليست عملة قابلة للتداول الخارجي، مهما بلغ حجم الأزمة الاقتصادية .
لقد تصرّفت مصر كدولة تعرف موقعها لا كطرف يلهث لإرضاء الممول، وتلك مفارقة كاشفة في زمن التحولات : فبعض العواصم تمتلك فائض المال، لكن القاهرة وحدها تمتلك فائض التاريخ .
لقد اختارت مصر أن لا ترد الشتيمة بمثلها، ولا أن تُشهر خطابًا انتقاميًا يُناسب الهياج الإعلامي حولها، بل ردّت بالفعل لا بالكلام، وبموقف سيادي لا بردّ فعل مؤقت.
وكان عنوان هذا الردّ واضحًا :
" من أراد الشراكة، فليأتِ بشروط التكافؤ لا التبعية " . ومن رفض، فمصر قادرة على الصمود ولو بأدنى الموارد، ما دامت تحتفظ بحدها السيادي الأقصى :
الكرامة .
خامسًا :
التمويل المشروط… سلاح غير نزيه في لعبة الجيوبوليتيك
ما يجب أن يُقال بوضوح – لا مواربة فيه ولا مجاملة – أن الدعم الموجه إلى مصر ليس صدقة ولا منّة، بل استثمار استراتيجي مباشر في استقرار الإقليم برمّته .
فحين تستقر القاهرة، تتماسك خرائط النفوذ العربي. وحين تضعف، لا يبقى لأحدٍ غطاء يحتمي به من رياح الشرق ولا من ارتدادات الغرب .
مصر لا تتسوّل. مصر تحافظ على توازنٍ إقليمي لو اختلّ، لا يهتز شمال إفريقيا فحسب، بل يختنق الخليج نفسه في مياهه الراكدة .
والأخطر من كل ذلك، أن تحويل أدوات الدعم المالي إلى أوراق ضغط سياسي، هو سلوك يضرّ بالمانح أكثر مما يحرج المستفيد، لأنه يكشف هشاشة الرؤية وبدائية أداة التأثير .
الكرامة لا تُشترى، والسيادة لا تُؤجَّر، ومصر، بما تمثّله، ترفض أن تتحوّل إلى بندٍ في ميزانية أحد .
سادسًا :
مصر … الجسر الذي لا يُعاقب لأنه صمد
لقد استثمرت الرياض وأبوظبي – عن وعيٍ استراتيجي – في تحالفات مع القاهرة، ليس حبًا تجريديًا، بل لأنها الحصن الإقليمي الأهم، والضامن الأمني الأول لتوازن المنطقة أمام ارتباك المحاور واختلال الخرائط .
فمصر، بحضورها العسكري والسياسي والديموغرافي، كانت رأس الجسر الذي عبر عليه الخليج من موجات الربيع العربي، ومن انهيارات ما بعد الدولة .
فهل يُعقل اليوم أن يُعاقَب هذا الجسر لأنه لم ينحنِ كما أرادوا ؟ أن يُهدَّد هذا الثقل لأنه فضّل الوقوف على الانبطاح ؟
من لا يدرك أن مصر كانت صمّام الأمان لعقدين على الأقل، ولم تطلب إلا الاحترام مقابل الوفاء، لا يفهم في الجيوبوليتيك شيئًا .
وفي عالَم ما بعد الهدير، لن تُقاس الدول بطول دفاترها البنكية، بل بمدى قدرتها على أن تظلّ واقفة … حين ينهار من حولها الجميع .
سابعًا : إ
لى العقلاء في الرياض وأبوظبي …
ومضة مراجعة لا تزال ممكنة
لا تزال في السعودية والإمارات – عقول سياسية تعرف الفرق بين القيادة والتسلّط، بين الشراكة وشراء الولاءات .
رجال دولة يُدركون أن قوة مصر، حتى حين تُقلق الحسابات الضيقة، أكثر أمنًا لهم من انكسارها، لأن كسر القاهرة لا يفتح لهم الساحة، بل يفتحها لأعدائهم .
الذين يفهمون التاريخ، لا يتعاملون مع مصر كبندٍ تفاوضي، بل كمعطى جيواستراتيجي ثابت، من العبث تجاوزه أو تطويعه .
وهم وحدهم القادرون على أن يوقفوا هذا الانحدار في خطاب الإعلام والتوجيه المالي، قبل أن يُفقد العلاقات العربية – العربية آخر ما تبقّى من رصيدها الأخلاقي والسياسي .
ليس كل خلاف يُحل بالإعلام. وليس كل بطء إصلاحي يُعالج بالتشهير السياسي .
مصر كانت وستظل، أمّ العرب لا خادمتهم .
وقائدة الشرق لا مَن يُقاد لها بالإملاء .
ومن أراد علاقة شراكة، فليقبل الندية لا التبعية، وليراجع أبجديات التاريخ لا مَيل القنوات الفضائية .
خاتمة :
من أراد الندية … فليقرأ التاريخ لا الشاشات
ليس كل خلاف يُحلّ على شاشات الإعلام، ولا كل بطء في مسارات الإصلاح يُعالج بالتشهير السيادي، والتلويح المالي، و” تسريبات ” الابتزاز المقنّع .
مصر لم تكن يومًا تابعة، ولن تكون خادمة لأحد، مهما توهّم صكوك الريادة عبر دفاتر التحويل .
هي أمُّ العرب حين يتوه الأبناء، وقائدة الشرق حين تفقد الجهات بوصلتها .
هي التي تُراجع التاريخ، لا تُملى عليها دروسٌ من قنوات تبحث عن مشهد استعراضي لا عن استقرار .
ومن أراد شراكة، فليأتِ على قاعدة الندية، لا التبعية .
ومن ابتغى وصايةً على القرار المصري، فليقرأ التاريخ لا مقالات التحريض .
ففي الجغرافيا السياسية كما في الكبرياء الوطنية … القاهرة لا تُدار بالضغط، بل بالتكافؤ والاحترام.
مصر العروبة … باقية رغم الحصار الناعم
إن هذه الهجمة الإعلامية – بكل ما تنطوي عليه من تضليل ناعم وتهديدات مموّهة – لن تخلخل الجبهة المصرية، طالما هناك نخبة تعرف أن الكرامة ليست بذخاً، وأن السيادة ليست خيارًا بل التزامٌ وجودي .
قد يتقلّب المزاج في بعض الدوائر، وقد يهدأ ضجيج المنصات لاحقًا، لكن ما لا يتغيّر هو هذا اليقين البسيط والخالد :
أن مصر لا تُؤجَّر، ولا تُدار بجهاز تحكّم خارجي، ولا تُشترى بتغريدة ولا تُبتزّ برسالة بنكية .
لأنها ببساطة … دولة نُسجت من خيوط التاريخ لا من أوامر اللحظة .
0 Comment