شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
في مساء الخامس عشر من سبتمبر 2025، أسدلت الدوحة ستارها على قمة عربية إسلامية بدت، في عيون المراقبين، أبعد ما تكون عن كونها اجتماعًا بروتوكوليًا طارئًا .
لقد تحولت القاعة المغلقة في العاصمة القطرية إلى مرآة مكثفة لصراع الهويات والتحالفات والتحولات الجيوسياسية التي تعصف بالشرق الأوسط منذ عقدين .
فالهجوم الإسرائيلي المباغت على الدوحة لم يكن مجرد اعتداء عابر على سيادة دولة خليجية، بل صدمة استراتيجية أعادت تعريف معادلات الأمن القومي العربي والإسلامي، وكشفت – على نحو غير مسبوق – حدود “المظلة الأمريكية” التي طالما اعتُبرت حائط الصد الأول في حماية العواصم الخليجية .
إنها قمة كسرت صمتًا طويلًا من التردد العربي والإسلامي، وجعلت من إسرائيل – بقرار جماعي – عدوًا معلنًا لا شريكًا ضمنيًا، وأيقظت في الوقت ذاته شكوكًا عميقة حول صدقية التحالف مع واشنطن، بعد أن بدا أن المصالح الأمريكية قد انزلقت إلى مستوى التواطؤ مع تل أبيب .
لذلك، لم تُختتم القمة ببيانات إنشائية كما اعتادت القمم السابقة، بل خرجت بمخرجات سياسية وعسكرية واقتصادية استثنائية، يمكن أن تشكّل – إن وجدت طريقها إلى التنفيذ – نقطة انعطاف كبرى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وفي علاقة العرب بالغرب عمومًا .
إننا أمام لحظة فارقة، لا تُقاس بحدة الخطاب أو صرامة البيانات، بل بقدرتها على إعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي .
فإما أن تكون هذه القمة بداية مسار استراتيجي جديد يتجاوز الرمزية إلى الفعل، أو أن تتحول إلى فصل آخر في سردية القمم التاريخية التي تبهج العناوين وتخفت في مسرح الواقع .
أولًا :
القرارات – عودة إلى لغة القوة
للمرة الأولى منذ عقود، بدا البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية في الدوحة محمولًا بجرأة غير مألوفة، ليس فقط في صياغته، بل في مخرجاته التي خرجت من عباءة الإنشاء السياسي إلى ملامسة معادلات القوة الصلبة .
القرارات جاءت صريحة، متجاوزة قوالب “الإدانة والاستنكار” إلى دعوات للفعل والالتزام :
• تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك، بعد أن ظلت لعقود حبيسة الأدراج، بما يعيد إحياء فكرة الردع الجماعي كإطار مؤسسي للأمن الإقليمي .
• تفعيل اتفاقية درع الخليج، في استدعاء مباشر لتجربة 1990، ولكن هذه المرة في مواجهة عدو خارجي غير عربي، الأمر الذي يضفي عليها بعدًا رمزيًا واستراتيجيًا جديدًا .
• إعادة تعريف إسرائيل كعدو معلن، عبر الدعوة لمراجعة العلاقات معها، وهو تحوّل نوعي في الخطاب الرسمي العربي منذ كامب ديفيد، عززته مواقف بعض القادة الذين وصفوا إسرائيل صراحةً بالعدو .
• تسخير الإمكانيات الخليجية – السياسية والاقتصادية والإعلامية – في خدمة الردع العربي والإسلامي، بما يشي باستعداد غير تقليدي لاستخدام أدوات النفوذ الاستراتيجي .
• إقرار آليات دفاع مشترك جديدة، عبر اجتماع عاجل للقيادات السياسية والعسكرية، في محاولة لتجاوز الطابع الرمزي للقرارات إلى وضع تصورات عملياتية .
• إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، بتثبيت حل الدولتين وعاصمتها القدس الشرقية كمرجعية جماعية، وربط هذا الموقف بالتحركات الأممية المقبلة .
إن هذه الحزمة من القرارات، وإن جاءت تحت ضغط اللحظة التاريخية وصدمة العدوان، تعكس عودة إلى “لغة القوة” بعد سنوات هيمن فيها خطاب التهدئة والتطبيع والانكفاء .
لقد أعادت القمة – ولو في خطابها – تعريف العلاقة مع إسرائيل بوصفها تهديدًا وجوديًا، لا مجرد خلاف سياسي قابل للاحتواء، وهو ما يجعلها لحظة فارقة قد تؤسس لانعطافة استراتيجية، إذا وُجدت الإرادة السياسية لترجمتها إلى واقع .
ثانيًا :
الأبعاد – تحولات في معادلة القوة
لم تكن مخرجات قمة الدوحة معزولة عن سياقها الجيوسياسي، بل جاءت انعكاسًا مباشرًا لزلزال استراتيجي فرضه العدوان الإسرائيلي على قطر، وما تسرّب من معطيات حول تواطؤ أمريكي – إسرائيلي استهدف تصفية قيادة المقاومة الفلسطينية على أرض الدوحة .
لقد تحوّلت الصدمة إلى لحظة وعي سياسي، فرضت إعادة قراءة شاملة للخرائط الأمنية والتحالفات، وأنتجت ثلاثة أبعاد استراتيجية رئيسة :
1- البعد الخليجي – سقوط أسطورة المظلة الأمريكية
أدركت دول الخليج، ولو متأخرًا، أن الحماية الأمريكية لم تعد ضمانة مطلقة، بل قد تتحول إلى غطاء لتواطؤات أكبر مع إسرائيل .
هذا الإدراك قلب المعادلة :
من اعتماد أحادي على الحليف الخارجي إلى بحث عن أمن ذاتي – جماعي، يعيد تعريف الأمن الخليجي باعتباره مسؤولية إقليمية بالدرجة الأولى .
2- البعد العربي–الإسلامي – عودة فكرة الجماعة الدفاعية
القمة أعادت إحياء مبدأ أن أي عدوان على دولة عضو هو عدوان على الكل .
لكنها تجاوزت البعد العربي التقليدي لتفتح المجال أمام تحالفات أوسع مع القوى الإسلامية الإقليمية، وعلى رأسها تركيا، في مقاربة جديدة للأمن المشترك تستند إلى تقاطع المصالح الاستراتيجية لا مجرد العواطف القومية .
3- البعد الدولي – رسائل ارتدادية لواشنطن والغرب
البيان الختامي لم يكن موجهًا إلى إسرائيل وحدها، بل حمل رسالة مزدوجة إلى العواصم الغربية :
أن الاستمرار في الانحياز المطلق لتل أبيب لم يعد بلا ثمن، وأن مصالح واشنطن وحلفائها – الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية – قد تصبح موضع مراجعة أو تهديد إذا استمرت سياسات الكيل بمكيالين .
بهذا المعنى، فإن القمة لم تكن مجرد رد فعل على واقعة عدوانية، بل نقطة انعطاف محتملة في إعادة تعريف موازين القوة الإقليمية والدولية، وجرس إنذار بأن زمن الارتهان الكامل للغرب قد بدأ يتصدع .
ثالثًا :
التحديات – الفجوة بين الخطاب والتنفيذ
على الرغم من جسارة القرارات التي خرجت بها قمة الدوحة، فإن اختبارها الحقيقي يبدأ عند لحظة التنفيذ .
فالتاريخ العربي مثقل بسجل من القمم التي دوّت بياناتها في القاعات، ثم تبعثرت عند أول تماس مع الواقع .
وهنا تتبدى التحديات الجوهرية :
• غياب الإرادة التنفيذية الجماعية :
فالذاكرة السياسية العربية تؤكد أن القرارات المدويّة كثيرًا ما تنتهي إلى نصوص مؤرشفة، ما لم تتوافر قيادة حاسمة تترجمها إلى خطوات عملية .
• هيمنة الحسابات الوطنية الضيقة :
كل دولة تنظر إلى أمنها ومصالحها الاقتصادية والسياسية بمعزل عن المجموع، وهو ما يضعف القدرة على الالتزام بمنطق “ المصير المشترك ”.
• الضغط الأمريكي المباشر وغير المباشر :
واشنطن، التي ترى أمن إسرائيل جزءًا من أمنها القومي، لن تسمح بسهولة بأي تحول يقيّد نفوذها أو يضع تل أبيب في زاوية العزلة .
أدوات الضغط الاقتصادي والسياسي جاهزة دائمًا للتوظيف .
• التباين العسكري البنيوي :
الجيوش العربية والإسلامية تختلف في بنيتها العقائدية والتسليحية، وتفتقر إلى قيادة عملياتية موحدة، ما يجعل من تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك طموحًا أكثر منه واقعًا ميدانيًا .
بكلمات أخرى، القمة أعلنت “لغة القوة” لكن دون أن تحسم بعد معضلة “ إرادة القوة ”.
والفجوة بين الخطاب والتنفيذ هي التي ستحدد ما إذا كانت مخرجات الدوحة ستدخل التاريخ كمنعطف استراتيجي، أم ستنضم إلى سلسلة من “القمم التاريخية” التي لم تغيّر شيئًا في معادلات الصراع .
رابعًا :
اللحظة الحرجة – بين الرمزية والاستراتيجية
إن القيمة الجوهرية لقمة الدوحة لا تكمن في ما صيغ من بيانات، بل في ما إذا كانت ستنجح في تجاوز عتبة الرمزية إلى فضاء الاستراتيجية الفعلية .
فالتاريخ السياسي العربي مليء بمحطات رفعت شعارات لامعة، لكنها انطفأت عند لحظة التنفيذ. التحدي الآن هو في اختبار القدرة على تحويل الكلمات إلى أدوات ضغط ومفاعيل واقعية :
• خفض التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل، بما يعيد رسم معادلة العلاقات ويضع تل أبيب في موقع العزلة لا الشراكة .
• تحريك المسارات القانونية الدولية، عبر تقديم ملفات أمام محكمة الجنايات الدولية ومجلس الأمن، بما يحرج إسرائيل ويقيد حركتها سياسيًا .
• تسخير الثقل الاقتصادي الخليجي، ليس فقط كرافعة مالية بل كورقة ضغط استراتيجية على الحلفاء الغربيين الذين يربطون استقرارهم بمصالحهم في المنطقة .
• بناء منظومات دفاع مشترك ولو تدريجية، بما يحوّل فكرة “الأمن الجماعي” من شعار إلى واقع ميداني ولو على مراحل .
إن لم تتحقق هذه التحولات، ستظل القمة مجرد حلقة إضافية في سلسلة “القمم التاريخية” التي أبهرت العناوين ولم تغيّر شيئًا في موازين الصراع .
أما إذا تجاوزت حدود الخطاب ولامست أرض الفعل، فإننا سنكون أمام بداية معادلة جديدة في الصراع العربي – الإسرائيلي، بل وربما في موقع العرب ضمن معادلة النظام الدولي ذاته .
الخلاصة :
⸻
القمة العربية الإسلامية في الدوحة لم تكن مجرد اجتماع استثنائي؛ كانت صرخة سياسية كاشفة :
أن إسرائيل عدو معلن، وأن المظلة الأمريكية لم تعد ضمانة بل عبئًا محتملاً .
لكنها أيضًا لحظة اختبار تاريخي :
فإما أن تتحول القرارات إلى أدوات قوة فاعلة تُعيد للعرب والمسلمين موقعًا تفاوضيًا متقدمًا في معادلة الإقليم، وإما أن تنزلق إلى مصير كثير من القمم السابقة، حيث بقيت النصوص بليغة والوعود عريضة، ثم تلاشت عند أول تماس مع حسابات الواقع وضغوطه .
تأتي القمة العربية الإسلامية في الدوحة كأحد المنعطفات التاريخية التي فرضت على العرب والمسلمين مواجهة سؤال الوجود لا سؤال الموقف .
فهي ليست مجرد اجتماع دوري لتبادل البيانات، بل لحظة اختبار حقيقية تضع النظامين العربي والإسلامي أمام خيارين لا ثالث لهما :
إما أن تتحول إلى محطة لانعطافة استراتيجية تعيد صياغة العلاقة مع إسرائيل والغرب وفق منطق القوة والمصالح، أو أن تُختزل في فصل جديد من التاريخ المألوف للبيانات الرنانة التي لم تغيّر يوماً موازين الصراع .
إن خطورة اللحظة تكمن في أنها تكشف عجز النظام العربي والإسلامي عن المماطلة أو الاحتماء بالشعارات، فالتاريخ لا يرحم التردد ولا يغفر العجز .
وبقدر ما قد تكون القمة مدخلاً لولادة مشروع استراتيجي جماعي، فإنها قد تنزلق لتصبح شاهداً إضافياً على أزمة القرار العربي والإسلامي، وإخفاقه في التحول من القول إلى الفعل .
0 Comment