الإصلاح بين أسر الماضي ونداء المستقبل : رسالة إلى شباب الحزب

الإصلاح بين أسر الماضي ونداء المستقبل : رسالة إلى شباب الحزب

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

 

على امتداد أكثر من ثلاثة عقود، ظل حزب الإصلاح ( الاخوان المسلمين فرع اليمن ) حاضرًا في المشهد اليمني لاعبًا رئيسيًا، وفاعلًا لا يمكن تجاوزه في معادلات السياسة والتحالفات والصراع . 

 

غير أنّ هذا الحضور لم يكن بالضرورة إيجابيًا على الدوام، بل كان في أحيان كثيرة جزءًا من معادلة إنتاج الأزمات ذاتها، لا من معادلة حلّها . 

 

فالإصلاح، شأنه شأن غيره من القوى اليمنية، تورّط – بدرجات كبيرة – في صياغة واقعٍ مأساوي يعيشه اليمنيون اليوم :

 فساد مستشرٍ، دماء نزفت بلا حساب، شتات في الداخل والخارج، واستحواذ مطلق على مقدرات الدولة تحوّل إلى سمة للحياة العامة . 

يضاف إلى ذلك انقسامٌ مجتمعي عميق غذّته العصبيات والمناطقية والطائفية، حتى صار الوطن نفسه أقرب إلى أرخبيل من التصدعات بدلًا من أن يكون كيانًا واحدًا متماسكًا .

 

ورغم أنّ الحزب قدّم تضحيات جسامًا في بعض المنعطفات التاريخية، ودفع آلافًا من شبابه إلى ساحات العمل السياسي والاجتماعي والقتالي، إلا أنّ هذه التضحيات لم تُترجم إلى مراجعات جذرية في بنية الحزب ولا في فلسفة قيادته . 

 

بل على العكس، ظلّ الإصلاح أسيرًا لقيادة متخشبة، مترهّلة، متكلسة في مواقعها منذ عقود، عاجزة عن قراءة المتغيرات الإقليمية والدولية، مترددة في مواجهة استحقاقات اللحظة التاريخية، ومتمسكة بالمقاعد وكأنها قدرٌ أبدي لا موقع مرحلي .

 

إن مأزق الإصلاح اليوم ليس فقط في علاقاته الملتبسة مع القوى الأخرى، ولا في صورته المهزوزة لدى الشارع اليمني، بل في بنيته الداخلية ذاتها : 

قيادة اعتادت على الدوران في حلقة مغلقة، عاجزة عن إنتاج مشروع وطني متجدد، وغير قادرة على منح الحزب ما يحتاجه من طاقة شابة ورؤية معاصرة تجعله فاعلًا في المستقبل لا أسيرًا لماضيه . 

 

وهذه ليست أزمة حزب بعينه بقدر ما هي انعكاس عميق لأزمة البنية السياسية اليمنية برمّتها، حيث تتحول الكيانات إلى سجون يديرها أفراد، بدلًا من أن تكون مؤسسات حيّة تصنع التغيير .

 

أزمة القيادة : 

بين الازدواجية والعجز

 

حين اندفع الإصلاح، ومعه قوى أخرى، إلى الساحات مطالبًا بإسقاط الزعيم الراحل علي عبدالله صالح،

كان ذلك المشهد محمّلًا بالمفارقات :

فالرجل الذي منحه الشرعية وفتح له المئات من المعاهد العلمية، فأخرجت أجيالًا من الشباب المؤدلج والمتشدد، هو ذاته الذي أصبح هدفًا لغضبهم بعد ثلاثةٍ وثلاثين عامًا من حكمٍ طال أكثر مما تحتمل الأوطان .

 

آنذاك بدا الخطاب منطقيًا، بل مقنعًا لجماهير أنهكها طول البقاء تحت سلطة واحدة، ورأت في ذلك الاصطفاف بوابةً إلى التغيير، غير مدركة أن المعركة كانت مؤامرة أجنبية كبرى ضد اليمن، وأنها أعقد من مجرد إسقاط رأس، وأن تراكمات العقود صنعت واقعًا أكبر من أن يُمحى بشعار أو يُهدم بهتاف .

 

 لقد أستغل مبدأ جوهري في أي نظام ديمقراطي : التداول الدوري للسلطة باعتباره الضمانة الوحيدة لتجدد الحياة السياسية وصيانة المؤسسات من التحجر والاستبداد، برغم مشاركته الكاملة في كل مفاصل السلطة، والدولة منذو البداية، فرئيس الحزب محمد اليدومي كان على رأس أخطر جهاز لأمن الدولة، في مرحلة اتسمت بالعنف المفرط والدموية القاسية، حيث أرتكب انتهاكات جسيمة بحق اليساريين والناصريين والبعثيين وغيرهم من المعارضين السياسيين، وهو إرث ثقيل ما زالت تداعياته ماثلة في الذاكرة الوطنية، يختزل طبيعة العلاقة المأزومة بين السلطة والمعارضة في تلك الحقبة . 

 

لقد كان الإصلاح …

يرفع شعار التغيير وكأنه يُقدّم نفسه حارسًا لهذا المبدأ .

 

لكن، ما أقسى المفارقة حين نعود إلى بيت الإصلاح الداخلي !!! فمنذ حرب 1994 وحتى اليوم، لم تتغير القيادات العليا للحزب إلا شكليًا . 

 

الأسماء ذاتها، الوجوه نفسها، والعقلية نفسها ما تزال تُمسك بمفاتيح القرار، وتدير الحزب بعقلية إدارة الأزمة لا بعقلية إنتاج البدائل .

 لم تُعقد انتخابات داخلية حقيقية تتيح للشباب أو للجيل الجديد من الكوادر أن يصعدوا، ولم تُضخ دماء جديدة تعيد للحزب حيويته وصدقيته .

 

لقد تحوّل الإصلاح، الذي نادى بالأمس بإسقاط صالح بذريعة طول بقائه في الحكم، إلى نسخةٍ مصغّرة من الظاهرة ذاتها التي عارضها، بل إلى صورة أشدّ بشاعة وفسادًا، حيث تكرّست داخله النزعة إلى الاحتكار،

وتحوّل من حاملٍ لشعار التغيير إلى جزءٍ من معضلة الاستبداد والفساد التي أنهكت الوطن .

 

هذه الازدواجية ليست مجرد خلل أخلاقي أو تناقض سياسي، بل هي أزمة وجودية تهدد الحزب في الصميم . 

 

فهي من جهة أفقدته المصداقية أمام الشارع اليمني، الذي بات ينظر إلى خطابه بشك وريبة، ومن جهة أخرى أفقدته المصداقية الأشد خطورة :

 المصداقية أمام أبنائه وشبابه .

 

هؤلاء الشباب، الذين يشكّلون القاعدة الأكثر حيوية وحضورًا في الجامعات والمدن ومختلف الساحات، وجدوا أنفسهم محصورين في دور “الجمهور” لا “الشركاء”، يُستخدمون للحشد والمواجهة لا لصناعة القرار .

 

إن أزمة القيادة في الإصلاح ليست مسألة أسماء أو أشخاص فقط، بل هي انعكاس لذهنية سياسية كاملة اختارت الجمود على التغيير، والمحافظة على التوازنات القديمة على حساب استحقاقات المستقبل . 

 

وهذه الذهنية إن لم تُكسر، فإنها لن تُفضي إلا إلى مآل واحد : 

فقدان الحزب لدوره التاريخي وتآكله من الداخل حتى يتحول إلى هيكل بلا روح .

 

شباب الإصلاح :

 القوة الصامتة

 

لم يعد شباب الإصلاح اليوم امتدادًا ميكانيكيًا لذلك الجيل الذي انخرط في الحياة السياسية خلال تسعينيات القرن الماضي، حين كان الحزب في طور التأسيس والتجذر داخل المجتمع اليمني . 

 

نحن أمام جيل جديد مختلف تمامًا : 

جيل عاش صدمات الحرب والشتات، وذاق مرارة الخذلان السياسي، واكتوى بسطوة السلاح وهيمنة المليشيا، وتربى في فضاء مفتوح شكّلته ثورة الاتصالات والإعلام الرقمي .

 

هذا الجيل لم يعد محصورًا في الدائرة الفكرية والتنظيمية التقليدية التي حكمت سابقيه، بل انفتح على مفاهيم أوسع :

 المواطنة المتساوية، العدالة، الحريات، والدولة المدنية .

 

إنّه جيل أكثر وعيًا بالتحولات المحلية والإقليمية والدولية، وأكثر جرأة في نقد المسلمات، وأكثر قدرة على التفكير خارج القوالب الجامدة .

 ومع ذلك، يظل هذا الجيل حتى اليوم محاصرًا داخل الإصلاح، مهمشًا على أطراف القرار، يُنظر إليه كقوة حشد لا كقوة تفكير، وكطاقة للتنفيذ لا كطاقة لصناعة الرؤية .

 

استمرار هذا التهميش لا يعني فقط إهدار فرصة تاريخية للإصلاح كي يستعيد دوره وحيويته، بل هو انتحار سياسي بطيء . 

 

فالأحزاب التي تُقصي شبابها تحكم على نفسها بالشيخوخة المبكرة، إذ تفقد أهم مصادر التجديد والدينامية . 

إنّ الحزب بلا شباب فاعلين يشبه جسدًا فقد دماءه، أو آلة تدور بعزم ماضٍ انتهى ولم يعد صالحًا للمستقبل .

 

وإذا كان الإصلاح قد نجح تاريخيًا في استقطاب أوسع قاعدة شبابية في اليمن، من خلال المعاهد العلمية، فإن عجزه اليوم عن تمكين هذه القاعدة وتحويلها إلى قوة قيادية فاعلة سيجعل منه مجرد هيكل تنظيمي تُديره مجموعة من القيادات التي استهلكها الزمن . 

 

إنّ الحزب الذي لا يفتح أبوابه أمام شبابه ليشاركوا في صياغة القرار، سيجد نفسه، لا محالة، أمام قاعدة تتآكل، وأمام جيل يبحث عن بدائل جديدة خارج أسواره .

 

مسؤولية تاريخية …

على عاتق الشباب

 

إنّ شباب الإصلاح، بما يملكون من حيوية وعدد واتصال مباشر بالواقع الجديد، يقفون اليوم أمام مفترق طرق مصيري لا يحتمل المراوغة ولا التسويف . 

فالمسألة لم تعد قضية مطالب جزئية أو إصلاحات تنظيمية محدودة، بل صارت رهينة خيارين استراتيجيين لا ثالث لهما :

 

الخيار الأول : 

الاستسلام

 

الركون إلى الواقع الراهن، وترك الحزب أسيرًا لقياداته الفاسدة والمترهلة التي استنزفت طاقته وأهدرت رصيده الشعبي، بما يعنيه ذلك من استمرار حالة الجمود والتكلس، ومزيد من الضعف والانحسار . 

 

هذا الطريق يقود، بلا شك، إلى مآل واحد :

 تحوّل الإصلاح إلى هيكل فارغ من الداخل، بلا حيوية ولا جاذبية، ومجرد اسم يتلاشى شيئًا فشيئًا من معادلة الفعل السياسي .

 

الخيار الثاني :

 المبادرة

 

المبادرة الجريئة والشجاعة التي تضع الشباب في موقع الفعل لا التبعية، من خلال الدفع بمشروع تجديد شامل يستعيد الحزب من قبضة الماضي، ويفتح الباب أمام قيادات جديدة نزيهة، نقية من أوزار الحروب والإقصاء والصفقات المشبوهة .

 

 قيادات تمتلك رؤية عصرية، ولغة سياسية حديثة، وأدوات فكرية وتنظيمية قادرة على التفاعل مع متغيرات القرن الحادي والعشرين، من الدولة المدنية إلى الثورة الرقمية، ومن الاقتصاد المعرفي إلى التحولات الجيوسياسية الإقليمية .

 

إنها مسؤولية تاريخية، لأن مصير الحزب – وربما جزءًا كبيرًا من مستقبل الحياة السياسية في اليمن – معلق بقدرة شباب الإصلاح على كسر قيود الماضي . 

 

وإذا لم يتقدّموا الآن، فلن يفعل ذلك أحد نيابةً عنهم، وسينسحبون إلى موقع المتفرج على سقوط حزبهم في هاوية العجز والانقسام .

 

إنّ اللحظة ليست لحظة انتظار، بل لحظة مبادرة. فمن يتردد الآن سيتحول غدًا إلى شاهد على جنازة مشروع سياسي كان يمكن أن يُبعث من جديد .

 

الإصلاح الجديد …

الذي نريده

 

ليس المطلوب من الإصلاح أن يتخلى عن قيمه أو يقطع مع تاريخه، بل أن يتحرر من الجمود والوصاية، وأن يعيد تعريف ذاته بصفته حزبًا وطنيًا يمنيًا خالصًا، لا فرعًا تابعًا لتنظيم عابر للحدود ( الإخوان المسلمين )، ولا أداةً مسيّسة تُوظف الدين في معارك السلطة . 

 

الإصلاح الجديد الذي ينشده اليمنيون يجب أن يكون مشروعًا وطنيًا جامعًا، يمتلك القدرة على تجديد نفسه داخليًا ليكون جزءًا من حل الأزمة اليمنية لا مجرد امتداد لها .

 • إصلاحٌ يمنياً خالصاً : 

ينطلق من خصوصية المجتمع اليمني وتاريخه وثقافته، ويتبنى مبدأ المواطنة المتساوية كمرجعية وحيدة، بعيدًا عن الانتهازية والطائفية والمذهبية واستغلال الدين لتبرير الاستحواذ أو الإقصاء .

 

• إصلاحٌ مؤسسي حديث : 

يقدّم الكفاءة والجدارة معيارًا للترقي داخل الحزب، لا الولاء الأعمى أو الانتماء إلى شللية مغلقة . 

فالمواقع القيادية يجب أن تكون تكليفًا يستند إلى الكفاءة لا تشريفًا يستند إلى القرابة أو المحسوبية .

 

• إصلاحٌ ديمقراطي داخليًا : 

يجعل من التداول القيادي قاعدة ثابتة لا استثناء مؤقتًا . الحزب الذي يطالب بديمقراطية الدولة يجب أن يكون أول من يطبقها في بنيته التنظيمية، وإلا فقد شرعيته الأخلاقية والسياسية .

 

• إصلاحٌ شباب المستقبل : 

يُصغي بصدق إلى أصوات الشباب، ويمنحهم القدرة على صياغة القرار لا أن يستخدمهم كأدوات حشد أو وقود لمعارك الآخرين . 

 

الإصلاح الذي لا يمكّن شبابه سيخسر أولًا قاعدته الداخلية، ثم مكانه في المشهد السياسي الوطني .

 

إن الإصلاح الجديد الذي نريده هو حزب يتجاوز عقلية الغنيمة، والاستحواذ والاقصاء، متحرر من أسر الماضي، ويضع نفسه في قلب مشروع وطني أكبر من ذاته . 

 

حزب يؤمن أن اليمن أكبر من جميع الأحزاب، وأن استعادة الدولة لا يمكن أن تتحقق بعقلية الاستحواذ، بل فقط عبر شراكة حقيقية، ورؤية عصرية، وقيادة متجددة .

 

الخلاصة :

 لحظة كسر القيود

 

لقد آن الأوان أن يقول شباب الإصلاح كلمتهم الفصل : كفى ثلاثة عقود من الجمود، كفى وصاية، كفى ارتهانًا للماضي . 

 

فالحزب الذي يعجز عن تجديد نفسه لن يكون قادرًا على الإسهام في تجديد وطنٍ ممزق كاليمن . 

 

والتاريخ لا يرحم؛ فهو لا ينتظر المترددين ولا يصفح عن العاجزين . 

فإما أن يكتب شباب الإصلاح صفحة جديدة مشرقة تليق بتضحيات اليمنيين، أو سيُطوى الحزب مع قياداته الحالية في صفحات الماضي، كذكرى باهتة لحزب كان يمكن أن يصنع الفارق لكنه اختار أن يتقوقع في ذاته .

 

هذه اللحظة ليست لحظة نقدٍ عابر ولا خطابات مترددة، بل لحظة فعلٍ تاريخي .

 على شباب الإصلاح أن يتحركوا من موقع التابع إلى موقع المبادِر :

 أن يطرحوا مشاريع عملية للتجديد، أن يفرضوا انعقاد مؤتمر عام حقيقي يفرز قيادة جديدة، وأن يحرروا حزبهم من أسر الأشخاص الذين تحوّلوا إلى كابح لكل تطور .

 

 إن الإصلاح، إن أراد البقاء، يجب أن يعود مشروعًا وطنيًا جامعًا، لا مجرد “غنيمة شراكة” تبحث عن مقاعد ومناصب وامتيازات .

 

إنها لحظة كسر القيود، لحظة استعادة المبادرة، لحظة يختار فيها شباب الإصلاح بين أن يكونوا شهودًا على أفول حزبهم، أو صناعًا لبعثٍ جديد يضع الإصلاح في قلب مشروع وطني عصري يتسع لليمنيين جميعًا. والتاريخ – كما علّمنا دائمًا – لا يكتب إلا بأقلام الجريئين .

Keywords:

0 Comment

Add Your Comment

Back Top