نصر أكتوبر الـ52… ملحمة العبور التي غيّرت وجه الزمان

نصر أكتوبر الـ52… ملحمة العبور التي غيّرت وجه الزمان

شذرات إستراتيجية

بسم الله الرحمن الرحيم 

مـــصـــطــفـــى بن خالد

 

السادس من أكتوبر… حين نهضت الروح من رمادها وكتبت على رمال سيناء معجزة الخلود

 

في السادس من أكتوبر، كانت الشمس تميل على صفحة القناة كعروسٍ ترتدي وشاح الغروب، وتمدّ أناملها الذهبية لتلامس مياهها الهادئة، قبل أن تتحوّل السكينة إلى عاصفة من المجد.

في تلك اللحظة الخالدة، لم تكن مصر تخوض حربًا بالسلاح فقط، بل كانت تستعيد روحها التي حاول التاريخ أن يطويها، فإذا بها تنهض كطائرٍ من نورٍ فوق لهبٍ من نار.

 

هناك، على ضفاف قناة السويس، لم يكن القدر يكتب مجرّد انتصارٍ عسكري، بل كان يسطر ملحمة وجودٍ وهويةٍ وكرامةٍ، تُعيد إلى الأمة العربية وهجها الذي خبا، وتفتح صفحة جديدة في كتاب العزة الإنسانية.

لقد كانت سيناء آنذاك أكثر من أرضٍ محتلة؛ كانت رمزًا لجسدٍ جُرح، فكان العبور هو العودة إلى الذات قبل العودة إلى التراب.

 

اثنان وخمسون عامًا مرّت على ذلك اليوم العظيم، وما زال عبق النصر يفيض في الذاكرة المصرية والعربية كأن الزمن نفسه يخجل من تجاوزه.

كل عام يمضي، تتجدد ملامح الفخر في الوجوه، وتلمع العيون بذات البريق الذي كان يضيء وجوه الجنود على ضفة القناة.

فما بين هدير الطائرات وصيحات “الله أكبر”، وبين موجات الرمال التي احتضنت الأبطال، ولدت أمة من رحم الإرادة، وارتسمت على وجه الشرق ابتسامة استعادة الكرامة.

 

إن نصر أكتوبر 1973 لم يكن مجرد معركة انتصر فيها جيش على جيش، بل كان معجزة التاريخ الحديث التي كسرت حاجز الخوف وزلزلت أسس الغطرسة، وأعادت صياغة معادلات القوة والسيادة في الشرق الأوسط.

لقد أثبتت مصر، يومها، أن الأوطان لا تُستعاد بالدموع ولا بالبيانات، بل بالعزيمة حين تتّقد، وبالإيمان حين يتحول إلى فعلٍ مقدس.

 

ذلك اليوم لم يكن فصلًا من الحرب فحسب، بل كان قصيدة في الشجاعة ودرسًا خالدًا في أن الإرادة الوطنية إذا اتحدت تصبح أقوى من الحديد والنار.

كان السادس من أكتوبر يومًا أعاد تعريف الممكن، يومًا تجلّت فيه مصر في أبهى صورها: أمّة تقف على أكتاف أجدادها، وتستدعي من أعماق حضارتها القديمة طاقة الخلود التي جعلتها عبر التاريخ لا تُهزم ولا تُكسر.

 

فيا له من يومٍ، حين تنحني له صفحات التاريخ إجلالًا، وتُعيد كل أمة تقرأ قصته اكتشاف معنى الانتماء والكرامة.

إنه ليس فقط يومًا من أيام الحرب، بل يوم ميلاد جديد لمصر والعروبة والإنسان، حيث امتزجت الدماء بالدعاء، والعقيدة بالعلم، والبطولة بالحكمة، ليُكتب على صفحة الكون أن في مصر رجالًا، إذا قالوا فعلوا، وإذا عاهدوا صدقوا، وإذا حاربوا انتصروا

 

زمن الانكسار… وميلاد الإصرار

 

بعد هزيمة يونيو عام 1967، كان الوطن العربي يقف على حافة الصمت الموجع. 

السماء رمادية، والآمال مكسورة الأجنحة، والكرامة العربية تئن تحت وطأة جرحٍ لم يكن في الجسد فحسب، بل في الوجدان ذاته.

لم تكن الهزيمة مجرد خسارة أرضٍ، بل انكسارًا في الوعي الجمعي، اهتزت معه صورة الجندي العربي، وتعثرت معه خطوات الحلم القومي الذي كان يملأ الأفق.

 

ومع ذلك، في قلب القاهرة، في معسكرات التدريب وعلى ضفاف القناة، كانت شرارة الحياة تتقد من جديد.

تحت غبار الهزيمة كانت مصر تخبئ ملامح نهضتها القادمة؛ كأنها أنثى مجروحة تُخفي دموعها لتُعدّ نفسها لولادةٍ من رمادٍ خالد.

كانت روحٌ جديدة تتخلق في العروق المصرية، روح لا تعرف الانكسار ولا تقبل الانحناء، تحمل إصرار التاريخ الممتد من ملوك طيبة إلى جنود السويس، ومن سيوف الفراعنة إلى بنادق أكتوبر.

 

في تلك المرحلة العصيبة، تلاقت حكمة الزعيم جمال عبد الناصر مع رؤية القائد أنور السادات على طريق واحد: أن مصر لن تموت، وأن كرامة الأمة لا تُستعاد إلا بالتضحية والتخطيط والعرق.

لم تكن الاستعدادات لحرب التحرير مجرّد تجهيز عسكري، بل كانت عملية إعادة بناء للروح المصرية من الداخل، فكما تُصنع المدافع في المصانع، صُنعت الإرادة في القلوب.

 

لقد آمن ناصر والسادات أن الحرب ليست مواجهة مدافع وصواريخ، بل صراع إراداتٍ بين من يملك الأرض ومن يملك الإيمان بها.

أيقنا أن المعركة المقبلة لن تُكسب بالأعداد ولا بالعتاد، بل بعقيدة الجندي المصري الذي يقاتل وهو يؤمن أن الله معه، وأن أرضه أمانة في عنقه.

 

ومنذ فجر التخطيط، كانت العقول المصرية تعمل بصبرٍ ودهاءٍ وإصرارٍ نادر؛ تُخفي خلف الصمت ضجيج الخطة، وتزرع تحت ظلال الخوف بذور المفاجأة.

كانت مصر تُعدّ لمعركةٍ لا تشبه سواها، معركة تُحرر الأرض وتغسل العار وتُعيد للتاريخ إيقاعه المفقود.

 

هكذا وُلد الإصرار من رحم الانكسار، وخرجت من بين الأنقاض إرادة ترفض الهزيمة، فبدأت مصر رحلة إعداد طويلة امتزج فيها العرق بالدم، والصبر بالعبقرية، والإيمان بالعلم، حتى أشرقت ساعة الحسم في السادس من أكتوبر، لتعلن للعالم أن الأمم العظيمة قد تتعثر، لكنها لا تسقط.

 

السادس من أكتوبر… ساعة الحقيقة

 

كان ذلك اليوم السبت السادس من أكتوبر لعام 1973، حين أطبق الصمت على الصحراء، وتوقفت عقارب الزمن استعدادًا للانفجار العظيم.

السماء كانت ساكنة، والهواء محمَّلًا بترقبٍ يشبه الصمت الذي يسبق العاصفة.

وفي تمام الساعة الثانية ظهرًا، دوّى الأفق بأصوات النسور المصرية وهي تشقُّ الفضاء في مشهدٍ كأنه لوحة من المجد الإلهي؛ مئتا طائرةٍ مصرية انطلقت في وقتٍ واحد، تخترق حاجز الصوت وحاجز الخوف معًا، لتصبَّ نيرانها المركَّزة على مواقع العدو في عمق سيناء المحتلة.

 

كانت الضربة الجوية الأولى بمثابة النداء الإلهي للانبعاث:

 

 ها هي مصر تعود من صمتها الطويل، لا لتقاتل فقط، بل لتستعيد روحها التي سُلبت ذات يونيو حزين.

 

لم تدم الدقائق الأولى إلا وقد تبدلت ملامح السماء.

توالت الانفجارات في صفوف العدو، وتهاوت مواقعه الدفاعية كأوراقٍ ذابلة في وجه الإعصار.

ومن قلب المعركة، انطلقت صيحات الإيمان من حناجر الجنود المصريين:

 

 “الله أكبر”

صيحة لم تكن مجرد نداء، بل زلزالًا في القلوب، ورجفة في التاريخ، وإعلانًا لميلاد فجر جديد.

 

في مشهدٍ أسطوريٍ لا يشبه إلا ذاته، اندفع أبطال المشاة المصريون نحو قناة السويس، بصدورٍ مؤمنةٍ وقلوبٍ معلّقة بالسماء.

كانوا يعبرون المياه بالنار والدم واليقين، بزوارق مطاطيةٍ بسيطة، وتحت وابلٍ من القذائف والرصاص، يُقيمون الكباري كأنهم يُشيّدون جسور الخلود.

لم تكن تلك الكباري مجرد أدوات عبور، بل جسورًا بين الهزيمة والنصر، بين الظلمة والنور.

 

وفي أقل من ست ساعات، كان ما لم يتخيله أحد قد تحقق:

تحطم “خط بارليف” الذي طالما تغنّى به قادة إسرائيل ووصفوه بأنه “أقوى خط دفاع في العالم”.

ذلك الجدار الرملي المدعّم بالخرسانة والفولاذ، انهار تحت عزيمة رجالٍ لا تملك جيوش الأرض مثلهم.

لقد هزم الجندي المصري التحصين بالذكاء، والنار بالإيمان، والتكنولوجيا بالشجاعة، وأثبت للعالم أن الإرادة حين تشتعل لا تُقهر.

 

كانت الرمال تهتز تحت أقدام المقاتلين، والسماء تتلو صلاة النصر على ألسنتهم.

وما بين مدٍّ وجزرٍ في نهر الدماء، كانت مصر تعبر التاريخ من ضفة الوجع إلى ضفة المجد.

لم يكن ذلك عبورًا لجندي إلى أرضٍ محتلة، بل عبور أمة بأكملها نحو استعادة كرامتها ووجودها.

 

لقد تغيّر وجه الشرق الأوسط في تلك الساعات.

تبدّلت معادلات القوة، وانهارت أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، ورفرفت الراية المصرية فوق الضفة الشرقية للقناة، تُعلن للعالم أن الحق، وإن تأخر، لا يموت.

 

ما بعد النصر… وعبقرية السلام

 

لم يكن نصر أكتوبر نهاية المعركة، بل بدايتها الحقيقية نحو فصلٍ جديد من الوعي الوطني والسياسي.

فالمعارك الكبرى لا تُقاس فقط بما يُستعاد من أرضٍ، بل بما يُستعاد من عقل الأمة وإدراكها لذاتها.

وقد أدرك الرئيس أنور السادات، بعبقريته الفذة وبصيرته العميقة، أن النصر العسكري مهما كان باهرًا لا يكتمل إلا إذا تُرجم إلى سلامٍ يحفظ ثماره ويصون دماء الأبطال التي روت رمال سيناء.

 

لقد خرج السادات من بين دخان المدافع يرى أبعد من حدود النصر؛ رأى وطنًا أنهكته الحروب وأمة تتوق إلى بناءٍ لا يقل بطولة عن القتال.

كان يعلم أن البندقية وحدها لا تصنع المستقبل، وأن السيف الذي يُشهر في وجه العدو لا بد أن يُغمد يومًا ليُفسح الطريق للقلم والمحراث والمصنع.

 

ومن رحم المعركة، ولدت فكرة السلام — سلام لا يُملى، بل يُنتزع من موقع القوة، سلامٌ خرج من قلب معركةٍ كُتبت بالدم، لا من طاولة تفاوضٍ باردة.

بهذه الرؤية الاستثنائية، قاد السادات أشجع مغامرة سياسية في التاريخ الحديث، فجلس إلى من كان بالأمس عدوًا ليصنع معه مشهدًا جديدًا للمنطقة، واضعًا نصب عينيه هدفًا واحدًا:

 

 أن تعود سيناء كاملة، طاهرة، مصرية، كما كانت وكما يجب أن تبقى.

 

وهكذا جاءت اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 ثمرةً لوعيٍ تاريخيٍ عميقٍ بأن الحرب طريقٌ إلى السلام، لا غاية في ذاتها.

وبها استعادت مصر كامل ترابها الوطني، ورفرفت رايتها من جديد على قمم جبال سيناء، شاهدةً على أن من ينتصر في الميدان قادر أن ينتصر على مائدة التفاوض أيضًا.

 

لقد تحوّل أكتوبر من نصرٍ عسكريٍ إلى مشروع وطني شامل أعاد تعريف مفهوم السيادة والقيادة في الوعي العربي.

كان النصر بداية لعصرٍ جديد تتقدم فيه مصر بثقةٍ على طريق السلام والتنمية والكرامة المستدامة، مؤكدة أن القوة ليست في الحرب فقط، بل في القدرة على صون النصر وتثميره بالحكمة والبصيرة.

 

وهكذا ثبتت مصر، بعد الحرب، أنها قلب العروبة النابض، وأنها — كما كانت عبر العصور — لا تحارب من أجل المجد الزائل، بل من أجل حياةٍ تليق بالأجيال القادمة.

وفي قرارها الشجاع بالمضي نحو السلام، أثبتت أن الشجاعة لا تكون فقط في الضغط على الزناد، بل في مدّ اليد لبناء الغد.

 

إنها عبقرية السلام المصري: أن يُصاغ من نار الحرب، وأن يُبنى على صلابة النصر لا على هشاشة الضعف، وأن يكون امتدادًا للمجد لا ختامًا له .

 

الجيش المصري… قدرُ مصر ورمزُ بقائها

 

يظل الجيش المصري هو النبض الذي لا يتوقف في قلب الوطن، سور الأمان ودرع العروبة المنيع، والعنوان الأبدي للصمود والبقاء.

هو اليد التي تبني كما تقاتل، وتحرس كما تضحي، جيشٌ لم يعرف الهزيمة إلا عابرًا، ولم يعرف الانكسار إلا لحظةً ليعود بعدها أعظم مما كان.

 

منذ فجر التاريخ، كان الجيش المصري حارس البوابة الكبرى للأمة، يقف على تخوم الحضارة حاملاً سيفها وضميرها معًا.

جيشٌ خرج من رحم الأرض ذاتها، امتزج ترابها بدماء أجداد الفراعنة، وورث عنهم معنى الخلود والبناء، فصار امتدادًا لذلك النيل الذي لا ينضب عطاؤه.

 

إنه الجيش الذي خاض معركة قادش مع رمسيس الثاني دفاعًا عن الهوية والسيادة،

ووقف في السويس عام 1956 كالجدار الصلب أمام العدوان،

وسطر على ضفاف القناة عام 1973 ملحمةً ستظل تضيء التاريخ إلى الأبد.

من بين صفوفه خرج عبد المنعم رياض الذي استشهد بين جنوده، وأبطال الصاعقة الذين جعلوا من القتال صلاة، ومن الموت سبيلًا إلى الخلود.

 

لقد ظل الجيش المصري دائمًا قدر مصر الذي لا فكاك منه، لا لأنه جيشٌ بالمعنى المؤسسي فحسب، بل لأنه تجلٍّ لروح الوطن في أنقى صورها.

في كل معركةٍ يخوضها، لا يدافع فقط عن أرضٍ أو حدود، بل عن هويةٍ ممتدة عبر سبعة آلاف عام، عن معنى البقاء ذاته في وجه العدم.

 

ولأن الأوطان العظيمة لا تُحمى إلا بالعقيدة، فقد كانت عقيدة الجيش المصري منذ الأزل أن “اليد التي تمسك السلاح هي نفسها التي تزرع وتعمّر”،

فهو جيش الشعب، لا جيش السلطة، وجنوده أبناء كل بيتٍ في هذا الوطن الكبير.

 

وكما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي في واحدة من كلماته التي حفرت في الوجدان الوطني:

 

 “إذا كان الجيش المصري قدر يعملها مرة، فهو قادر يعملها كل مرة .”

 

تلك العبارة ليست مجرد شعار يُردّد، بل عقيدة أمة تراكمت في ضميرها خبرة التاريخ ووهج البطولة.

إنها كلمة تختصر قرونًا من الصبر والمجد، وتُعبّر عن يقينٍ لا يتزحزح:

أن مصر محروسة بجيشها، وأن جيشها ليس مجرد قوةٍ مادية، بل قدرٌ إلهيٌ كُتب لها منذ بدء الخلق، لتبقى حامية الأرض، وصانعة السلام، وحارسة النيل من الضياع.

 

وهكذا، يظل الجيش المصري رمز بقاء الأمة وعنوان كرامتها، يتوارثه الأبناء عن الآباء كما يتوارثون الإيمان والحب والانتماء.

جيشٌ كلما مرّ الزمان، ازداد شموخًا في الذاكرة وعمقًا في الجغرافيا، لأنه ببساطة ليس مؤسسة عسكرية فقط، بل تجسيدٌ حيّ لفكرة مصر ذاتها .

 

أكتوبر… ذاكرة لا تشيخ

 

ليس نصر أكتوبر مجرد تاريخ يُحتفل به في التقويم، بل وجدانٌ يسكن في قلب كل مصريّ، ينبض في الأناشيد، ويتردّد صداه في ضمير الأمة كلما مرّ النسيم على ضفاف القناة.

إنه ذاكرة خالدة لا تشيخ، لأنها لم تُكتب بالحبر، بل سُطّرت بالدم والعقيدة والإيمان.

 

في كل عام، حين يأتي السادس من أكتوبر، تستعيد مصر شبابها من ذاكرة المجد، وتفتح كتابها الذهبي على صفحةٍ كتبها الأبطال بأرواحهم قبل أقلامهم.

تتوهّج العيون بالفخر، وكأنها ترى الجنود من جديد وهم يعبرون القناة، يرفعون الراية بأيدٍ نُسجت من الشجاعة، وقلوبٍ مُفعمة بالإيمان، ووجوهٍ يضيئها ضوء العقيدة أكثر من ضوء الشمس.

 

نصر أكتوبر هو الوعد المتجدد في ضمير الوطن بأن مصر، مهما طال عليها ليل المحن، قادرة أن تنهض من الرماد وتبهر العالم من جديد.

لأنها — ببساطة — أمةٌ لا تعرف الفناء، تسقط حينًا لتعلو ألف مرة، وتبكي لحظة لتبتسم أبدًا.

 

هو نصرٌ لم يعد حدثًا في التاريخ، بل أيقونة في وجدان الأمة؛ يُروى للأبناء لا كحكاية عن الحرب، بل كدرسٍ في معنى العزيمة والكرامة والوطن.

ومن خلاله تعلّم المصري أن المستحيل ليس إلا كلمة عابرة أمام إرادة من آمن بأن الله لا يخذل من يدافع عن أرضه.

 

أكتوبر هو ذاكرة أمةٍ وجدت نفسها في لحظة الخطر، فواجهت الموت كي تكتب للحياة معنى البقاء.

هو مرآةٌ ترى فيها مصر وجهها الحقيقي: جميلة حين تحارب، عظيمة حين تنتصر، راقية حين تبني، وأبية حين تواجه.

 

وكلما مرّت الأعوام، يبقى السادس من أكتوبر نبراسًا للأجيال، يُذكّرهم أن النصر ليس صدفة، بل ثمرة إيمانٍ عميقٍ وعملٍ دؤوبٍ ووحدةٍ لا تنكسر.

ومن يعِ هذه الحقيقة، يدرك أن مصر — التي عبرت المستحيل — قادرة أن تعبر المستقبل بثقةٍ ذاتها، وبقوة جيشها، وبحبّ أبنائها، وبحكمة قادتها.

 

سلامٌ على أكتوبر الذي لا يشيخ،

وسلامٌ على أبطاله الذين ما زالوا يعيشون بيننا كأنفاسٍ في هواء الوطن،

وسلامٌ على مصر… التي وُلدت من النيل، وعُمّدت بالنصر، وستبقى إلى الأبد أمةً لا تُقهر، ولا تُكسر، ولا تُنسى.

 

يا جيل اليوم… يا من لم تعايشوا زمن العبور، ولم تسمعوا هدير الطائرات فوق القناة، ولا دويّ صيحة “الله أكبر” وهي تُشقّ السماء، اعلموا أن تلك المعركة لم تكن فقط لاسترداد أرضٍ اغتُصبت، بل لاستعادة هويةٍ وكرامةٍ ووجودٍ.

كانت حرب أكتوبر درسًا خالدًا في أن الوطن لا يُوهب، بل يُنتزع بالإيمان والعزم والعلم والعمل.

 

يا أبناء هذا الوطن،

إن نصر أكتوبر ليس قصة تُروى في المدارس أو مشهدًا عابرًا في الأفلام، بل بوصلة روحية يجب أن تُوجّه وعيكم الوطني، وتذكّركم دائمًا أن القوة الحقيقية لا تُبنى بالسلاح وحده، بل بالعقل الذي يفكر، واليد التي تعمل، والقلب الذي يحب.

فالوطن لا تحميه البنادق وحدها، بل تحميه القيم، ويصونه الإخلاص، ويعليه العمل الشريف، وتبنيه سواعد تؤمن أن كل لبنة فيه جزء من دمها.

 

يا من تحملون شعلة المستقبل،

تذكروا أن أبطال أكتوبر لم يكونوا ملائكةً من ضوء، بل بشرًا من لحمٍ ودمٍ وآمالٍ بسيطة، لكنهم حملوا في صدورهم إيمانًا بحجم السماء، فجعلوا المستحيل ممكنًا، والهزيمة نصرًا، واليأس فجرًا جديدًا.

فكونوا أنتم امتدادهم، واجعلوا من انتصارهم منهج حياةٍ لا ذكرى سنوية.

 

احفظوا من نصر أكتوبر معناه لا تاريخه فقط،

فهو يقول لكم: لا مستحيل أمام من آمن بوطنه.

يقول إن مصر لا تُعطى، بل تُستحق، ولا تُحمى إلا بالعمل والعلم والاصطفاف حول رايتها.

 

ولتعلموا، يا أبناء النيل، أن العبور الحقيقي اليوم ليس عبور قناةٍ من ماء، بل عبور نحو مستقبلٍ من ضياء، تُشيّدونه بعقولكم وسواعدكم وإبداعكم، كما شيده آباؤكم من قبل بدمائهم.

 

فكونوا على العهد،

وكونوا لمصر كما كانت مصر دائمًا لكم:

أمًّا حانية، ورايةً عالية، وقدرًا أبديًا لا ينطفئ .

 

مصر التي لا تُهزم

 

بعد 52 عامًا، يظل السادس من أكتوبر يومًا تتجدد فيه أنشودة النصر في قلب كل مصري، ويعلو فيه صدى أرواح الشهداء فوق الزمن، لتشهد أن مصر — كانت وما زالت وستظل — أمةً لا تُقهر، ولا تُكسر، ولا تُباع، ولا تُشترى.

 

إنه يوم يعيدنا إلى لحظة الفخر الأولى، ويجعلنا نكتشف من جديد أنفسنا، ونوقن أن أرض الكنانة لا تعرف الانحناء، لأن فيها رجالاً حملوا في صدورهم الإيمان قبل السلاح، وعلموا أن الدفاع عن الوطن عبادة، وأن الموت في سبيله حياة.

 

في السادس من أكتوبر، لم يكن الانتصار مجرد حدث عسكري، بل تجسيد لإرادة أمة كاملة، رسالة لكل من تسوّل له نفسه المساس بمصر أو المساس بكرامتها، تذكّر العالم أن التاريخ يُكتب ببطولات الرجال قبل الأقلام، وأن المجد يُنتزع بالعزم قبل الحديد.

 

سلامٌ على أكتوبر…

سلامٌ على أبطال عبور القناة، الذين كتبوا المجد بالدم والعقيدة والروح…

وسلامٌ على مصر، التي وُلدت من النيل، عُمّدت بالنصر، وكتُب لها أن تبقى أبد الدهر، درة العروبة وسيفها المشرع في وجه كل معتدٍ، حامية للحق، وراعية للكرامة، وملهمة للأجيال القادمة .

Keywords:

0 Comment

Add Your Comment

Back Top