شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
فتح قصر السلاح وإعلان الجمهورية
(اللحظة التي انكسر فيها جدار القرون)
لم تكن صنعاء تعرف أن فجر السادس والعشرين من سبتمبر 1962 سيغيّر وجهها إلى الأبد.
كان الليل ساكنًا، والقمر فوق القلعة العتيقة يتلألأ كما لو أنه ينتظر الشهود الأوائل على ولادة التاريخ.
وفي تلك اللحظات الحرجة، كان عبدالله السلال يقف وسط صمتٍ كثيف في قصر السلاح، المكان الذي خبّأ فيه الإمام أحمد يوماً مفاتيح قوته… وها هو السلال يستخدمها ليكسر أقفال الطغيان نفسه.
⸻
بين الحديد …
والإيمان
منذ أسابيع، كان السلال يُعدّ لهذا الموقف بدقة الجندي وحذر السياسي وإيمان الثائر.
كل طلقة، كل موقع، كل حارس، كان له مكانه في الخطة.
لقد أدرك أن قصر السلاح هو قلب الإمامة النابض؛ فإذا سقط، سقط النظام كله.
لذا، حين دقّت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، أعطى إشارته الحاسمة لفتح البوابات.
لم تكن أوامر صاخبة، بل كلمات هادئة تحمل في طيّاتها زلزلة التاريخ:
“ افتحوا… فاليمن تستيقظ الآن .”
وبحركةٍ خاطفة، دُخلت المخازن، ووزّعت البنادق والذخائر على الضباط الأحرار.
كانت لحظة تحرير الحديد من طاعة الظلم.
ولأول مرة منذ قرون، خرج السلاح من مخابئه لا لحماية الإمام، بل لحماية الشعب.
⸻
السلال …
من القصر إلى القيادة
بينما كانت وحدات أخرى تتحرك نحو دار البشائر، كان السلال يشرف بنفسه على تأمين خطوط الاتصال وتوزيع القوات حول العاصمة.
كان صوته ثابتًا، نظراته بعيدة كمن يرى الغد قبل أن يولد.
كل أمرٍ يعطيه كان يُكتب في تلك اللحظة على صفحة التاريخ اليمني.
ثم، بعد أن تأكد أن الثورة أصبحت في يدها السلاح، توجه نحو مقر القيادة العامة — وهناك اجتمع بضباط الصف الأول من التنظيم.
تحدث إليهم بعبارة قصيرة، لكنها كانت كفيلة بأن تشعل ما تبقّى من الشكوك:
“ الليل انتهى… لا عودة إلى الوراء .”
كانت تلك الكلمات شيفرة الفجر، إشارة البدء التي تحرّكت بعدها الدبابات، وبدأت المدافع تُدوّي في أطراف صنعاء.
⸻
البيان الأول …
صوت الحرية من بين البنادق
في الوقت نفسه، كانت مجموعة من الضباط الأحرار بقيادة عبداللطيف ضيف الله وعلي عبدالمغني قد سيطرت على مبنى الإذاعة.
وفي تمام الساعة الخامسة فجراً، انطلق الصوت الذي انتظره اليمنيون منذ قرون.
كان الصوت جهورياً، واثقاً، كأنه خارج من حنجرة التاريخ نفسه:
“أيها الشعب اليمني العظيم… قامت ثورتكم المباركة للقضاء على الحكم الفردي وإعلان النظام الجمهوري العادل …”
توقفت الأنفاس، وارتجّت صنعاء القديمة.
الناس خرجوا من بيوتهم مذهولين، بعضهم يبكي، بعضهم يكبّر، وآخرون لا يصدقون أن الليل الطويل قد انتهى أخيرًا.
وفي تلك اللحظة، كان عبدالله السلال يقف في مقر القيادة، يستمع إلى البيان من مذياعٍ صغير أمامه.
لم يبتسم… لكنه أغمض عينيه لحظة، ثم قال بصوتٍ خافت:
“ الحمد لله… هذا هو الوطن الذي حلمنا به .”
⸻
من ضابطٍ …
إلى رئيس
بعد ساعاتٍ قليلة من إعلان البيان، كانت الثورة قد أحكمت سيطرتها على العاصمة.
قُتل بعض من حاولوا المقاومة، وفرّ آخرون إلى خارج صنعاء.
أما الإمام البدر، فقد غادر القصر في ظلمة الفجر إلى شمال البلاد، ليبدأ عصر الهزيمة الكبرى للإمامة.
اجتمع الضباط الأحرار في مبنى القيادة، وكان لابد من اتخاذ قرارٍ سريع بتعيين قائدٍ للجمهورية الوليدة.
لم يكن ثمة خلاف:
بعد مشاورات تم اختيار المناضل اللواء حمود الجائفي الهمداني لرئاسة الجمهورية الجديدة، إلا أنه اعتذر تقديراً للظروف، فتوافق الجميع بإجماعٍ راقٍ ومسؤول على اختيار المناضل عبدالله السلال في خطوة تؤكد نضج الوعي الوطني، وروح التوافق، وإرادة التغيير نحو مستقبل يمني جديد قائم على الشراكة والوحدة والعدالة.
وفي صباح السادس والعشرين من سبتمبر، أُعلن رسميًا أن المشير عبدالله السلال هو رئيس مجلس قيادة الثورة، والقائد العام للقوات المسلحة.
⸻
فجر … الجمهورية
ومع طلوع الشمس، كانت صنعاء ترتدي ثوبًا جديدًا.
ارتفعت الأعلام، وصدحت المآذن بالتكبير، وبدأت الجموع تتدفق نحو الساحات تهتف:
“ عاش الشعب… عاش الجيش… عاش السلال! ”
لم تكن تلك مجرد هتافات؛ كانت ولادة وعيٍ جماعي بأن اليمن يمكن أن تحكم نفسها دون إمام، دون عزلة، دون خوف.
لقد خرجت البلاد من كهف القرون إلى ضوء النهار.
والسلال، الرجل الذي ظلّ لسنواتٍ يخفي الثورة في صدره كسرٍّ مقدس، وقف في شرفة القيادة يتأمل الجماهير…
لم يتحدث كثيرًا، لكنه قال عبارةً بقيت محفورة في الذاكرة اليمنية:
“ من اليوم، لا سيدَ على أحد… اليمن سيد نفسه .”
⸻
رسالة عبدالله السلال إلى شباب اليوم
يا شباب اليمن… يا أبناء الفجر الذي لم يكتمل بعد،
لقد حملنا السلاح يومًا لا لنُبدّل سلطانًا بسلطان، بل لنكسر قيودًا كانت في العقول قبل أن تكون في الأصفاد.
قاتلنا لا لأننا أحببنا الحرب، بل لأننا كرهنا الذل.
واليوم، أنتم من سيُكمل الطريق، لكن بأسلحتكم أنتم: العلم، والوعي، والصدق، والإرادة.
الثورة التي أشعلناها لم تكن عاصفةً عابرة، بل بذرةً تنتظر من يسقيها كل جيل.
هي ليست ذكرى نحتفل بها، بل مسؤولية نعيشها.
لا تقولوا: “لقد سبقونا”، بل قولوا:
“ علّمونا كيف نبدأ من حيث انتهوا .”
يا أبنائي…
تعلموا أن الحرية ليست شعارًا يُرفع، بل سلوكٌ يُمارَس في كل بيتٍ ومؤسسةٍ ومدرسة.
إن سرّ الجمهورية لا يسكن في القصور، بل في قلب كل إنسانٍ يرفض الظلم ويؤمن بالمستقبل.
احذروا من الذين يسرقون باسم الوطن،
ومن الذين يقتلون الحلم باسم الدين،
ومن الذين يلبسون أثواب الثورة ليخفوا خناجر المصالح.
واعلموا أن النصر لا يُهدى من الخارج، بل يُصنع بالعرق والضمير من الداخل.
اليمن لم يُخلق ليكون ساحة صراع، بل منارةً للعروبة والكرامة.
احفظوا وحدتكم، واحترموا اختلافكم،
فمن لا يصون تنوّعه سيهدم بيته بيده.
تذكّروا دائمًا أن هذا الوطن وُلد فقيرًا في الذهب، غنيًّا في الرجال، وأن أكرم ما فيه هو أنتم، حين تعرفون من أنتم.
ولا تنسوا أن الثورة لا تموت،
ما دام في كل قريةٍ طفلٌ يحلم بمدرسة،
وفي كل مدينةٍ شابٌ يؤمن أن الغد يمكن أن يكون أفضل.
فكونوا أنتم جيل الجمهورية الثانية،
جيل الوعي والبناء، لا الصراع والفوضى،
واكتبوا بعرقكم الصفحة التالية من تاريخٍ بدأناه بدمائنا.
أما نحن — جيل سبتمبر — فقد أدينا الأمانة،
وسلّمناكم الحلم، كما يُسلَّم المشعل في سباق الخلود.
فلا تُطفئوه بالخلاف، بل اجعلوه نورًا يسير أمامكم،
حتى لا يعود اليمن يومًا إلى العتمة.
والله على ما نقول شهيد.
– عبدالله السلال
من ذاكرة سبتمبر إلى ضمير الأجيال
خلاصة الجزء السابع:
وهكذا، في فجر السادس والعشرين من سبتمبر 1962،
انتهى زمن الأبواب المغلقة، وبدأ زمن الوطن المفتوح على الحلم.
ومن قصر السلاح، خرجت أول شرارة حرية، حملها رجالٌ آمنوا أن البنادق ليست فقط للقتال، بل لصنع الفجر.
وفي مقدمتهم، كان عبدالله السلال — الرجل الذي لم يرفع صوته كثيرًا، لكنه جعل التاريخ يتحدث باسمه إلى الأبد.
السلال في ….
مواجهة العاصفة
(حرب الجمهورية وبناء الدولة)
لم تكد تمرّ أيامٌ على إعلان الجمهورية في السادس والعشرين من سبتمبر، حتى بدأت الغيوم تتكاثف حول صنعاء.
فالنظام الإمامي، الذي سقط في العاصمة، لم يمت في الجبال؛ بل انسحب إلى الشمال ليُعيد تجميع نفسه في نجران وصعدة وحجة.
وكان الإمام محمد البدر — الذي ظنه الناس قتيلاً — قد ظهر فجأة في تسجيلٍ صوتي من إذاعة خارجية يعلن فيه أنه ما يزال حيًّا، ويدعو القبائل إلى “الجهاد ضد الانقلابيين”.
وهكذا بدأت الحرب الأولى للجمهورية الوليدة.
⸻
رجلٌ في …
قلب العاصفة
وجد عبدالله السلال نفسه أمام مهمة تكاد تكون مستحيلة:
دولة جديدة بلا مؤسسات، وجيش مشتّت بين ولاءاتٍ قديمة، وحربٌ أهلية تلوح في الأفق، وأعداءٌ يتربصون من الخارج والداخل معًا.
لكن الرجل الذي واجه الإمامة في عقر دارها، لم يكن ليتراجع.
كان يقول لضباطه:
“ من أراد أن يبني وطنًا، فليعرف أولًا كيف يحميه .”
ولأنه كان رجلاً من رحم الجيش، لم يخَف صوت المدافع ولا خيانة البعض من حوله.
أعاد تنظيم القوات، ورتّب خطوط الدفاع عن صنعاء وتعز والحديدة، واستدعى الضباط الأحرار من مختلف الجبهات لقيادة المعارك.
لقد أدرك أن بقاء الجمهورية لا يُصان بالبيانات، بل بالثبات عند أول اختبارٍ للنار.
⸻
القاهرة …
السند الاستراتيجي
كانت مصر الناصرية في ذلك الوقت قد تابعت أحداث سبتمبر لحظة بلحظة، ورأت في الثورة اليمنية امتدادًا لروح يوليو.
وحين وصل نداء الاستغاثة من صنعاء، قرّر الرئيس جمال عبدالناصر أن يدعم السلال بكل ما يستطيع.
أُرسلت طلائع من القوات المصرية إلى اليمن، لتكون الدرع الأولى للجمهورية الوليدة.
تعددت الجبهات، وتشابكت المصالح، وبدأت الحرب تتحوّل إلى ميدان صراعٍ إقليمي ودولي:
فالسعودية والأردن دعمتا الملكيين، بينما وقفت مصر والعراق إلى جانب الجمهوريين.
وفي قلب كل ذلك، وقف السلال كقائدٍ صلبٍ لا يتراجع، يحاول الموازنة بين التحالف الضروري والسيادة الوطنية.
قال مرةً لأحد مبعوثي القاهرة، حين ضغط عليه في شأنٍ سياسي:
“ نحن لا ننسى فضل مصر، لكن اليمن لن تكون ظلًّا لأحد.
نحن إخوة في الثورة، لا توابع في السياسة .”
كانت هذه الجملة تعبّر عن جوهر شخصية السلال:
ابن العروبة، المؤمن بوحدة المصير، لكنه في الوقت نفسه حارسٌ لكرامة بلده أمام الجميع.
⸻
معارك الجبال …
وصمود الجمهورية
اشتعلت الحرب في جبال شمال اليمن كجمرٍ تحت رمادٍ لا ينطفئ.
الملكيون يحاولون الزحف من صعدة وحجة نحو صنعاء، والجيش الجمهوري يقاتل في ظروفٍ قاسية.
كانت الطرق وعرة، والمؤن شحيحة، والسماء تمطر رصاصًا أكثر مما تمطر ماءً.
لكن في كل معركةٍ، كان السلال يظهر كرمزٍ للصمود، يقف بين الجنود لا خلف المكاتب.
روى أحد الضباط المصريين الذين خدموا معه في تلك الفترة أنه رآه ينام في خيمةٍ على الأرض قرب الخطوط الأمامية، وعندما سأله لماذا لا يعود إلى مقره الآمن، أجابه السلال ببساطة:
“ كيف أنام في القصر وهناك جنديٌ يحرس الجمهورية في العراء؟ ”
كانت تلك الفلسفة القيادية هي ما جعلت الناس يلتفون حوله رغم كل الصعوبات.
لقد آمنوا أن هذا الرجل لا يحكمهم من برجٍ عاجي، بل يعيش الجمهورية كما يحلم بها:
شرفًا في الميدان، وتواضعًا في الحياة.
⸻
الداخل المتقلب …
والسياسة الصعبة
لكن المعارك لم تكن فقط على الجبهات.
في الداخل، بدأت الخلافات تدبّ بين صفوف الثوار أنفسهم:
ضباطٌ يريدون الإسراع في بناء المؤسسات المدنية، وآخرون يرون أن الحرب لا تسمح بأي ليونة.
وكانت القاهرة تضغط أحيانًا لتوحيد القرار، بينما تحاول بعض القوى القبلية استعادة نفوذها التقليدي.
وقف السلال في منتصف العاصفة، يمسك بميزانٍ دقيقٍ بين الثورة والدولة.
لم يكن سياسيًّا محترفًا، لكنه كان وطنيًّا بالفطرة، يعرف أن اليمن إذا انقسمت، ستعود الإمامة من الباب الخلفي.
ولذلك ظلّ يكرر:
“ قد نختلف في التفاصيل، لكننا نتفق في الهدف:
أن لا يعود اليمن سجنًا بعد اليوم .”
⸻
النصر في صنعاء …
وصمود التاريخ
في عام 1967، واجهت الجمهورية اختبارها الأعظم في حصار صنعاء الشهير.
الملكيون أحكموا الطوق حول العاصمة، والدعم الخارجي انقطع بعد انسحاب القوات المصرية إثر نكسة يونيو.
لكن السلال، الذي كان قد انتقل مؤقتًا إلى القاهرة للعلاج والتشاور، تابع الأحداث من بعيد بقلبٍ يحترق على صنعاء.
حين انكسر الحصار بعد سبعين يومًا من الصمود، كتب في رسالةٍ إلى أحد قادته:
“ لقد انتصرت الجمهورية لا بالسلاح فقط، بل بإيمان الرجال الذين لم يبيعوا الحلم .”
وبذلك انتصرت الثورة مرتين:
مرة في سبتمبر، ومرة في ديسمبر عندما أثبتت أنها قادرة على البقاء وحدها.
⸻
رجل الدولة …
لا مجرد قائد ثورة
لم يكن السلال حاكمًا يبحث عن مجدٍ شخصي، بل رجلًا يرى نفسه حارسًا على باب الفجر.
وفي كل قرارٍ اتخذه، كان يضع أمامه فكرة واحدة:
أن تبقى الجمهورية حيّة، حتى لو رحل هو.
قال في آخر خطابٍ له قبل مغادرته صنعاء عام 1967:
“لقد أدّيت واجبي، وسأظل جنديًّا في صفّ اليمن ما حييت.
المهم أن تبقى الراية مرفوعة .”
وهكذا غادر الحكم، لكن اسمه لم يغادر الذاكرة.
بقي في وجدان اليمنيين رمزًا للفجر الأول، وصوتًا نقيًا لم يساوم على مبادئه، ولا باع الثورة في أسواق السياسة.
⸻
خلاصة الجزء السابع:
لم يكن عبدالله السلال مجرد رئيسٍ للجمهورية، بل ضميرها المؤسس.
حمل على كتفيه دولةً من رماد الإمامة، وسار بها وسط العواصف، لا يملك إلا إيمانه وكرامته.
وحين سقطت عنه السلطة، بقي له المجد.
فالتاريخ لا يخلّد من جلسوا على العروش، بل من بنوا لها الأرض تحت النار.
عبدالله السلال – الرجل الذي سبق زمنه
(المنفى، العودة، والخلود)
بعد أعوامٍ من العاصفة، هدأت صنعاء قليلًا، لكن داخلها كان صدى الثورة ما يزال يدوّي.
تبدّل الحلفاء والخصوم، وتعاقبت الحكومات، غير أن اسم عبدالله السلال ظلّ حاضرًا كنجمةٍ لا تنطفئ في سماءٍ مكتظّة بالدخان.
لقد أدّى دوره، ودفع الثمن، ثم مضى إلى المنفى — هادئًا كما جاء، وكبيرًا كما رحل.
⸻
الرحيل … إلى القاهرة
في عام 1967، وبعد التحولات السياسية العاصفة التي أعقبت انسحاب القوات المصرية من اليمن،
وجد السلال نفسه محاصرًا بين الولاء لمبادئ الثورة وضغوط التوازنات الجديدة.
لم يكن من أولئك الذين يناورون للبقاء، ولا من الذين يساومون على القيم.
وحين وجد أن البقاء في السلطة قد يعني التنازل عن جوهر الجمهورية، اختار الكرامة على الكرسي.
غادر صنعاء إلى القاهرة بصمتٍ يشبه وقار الجبال.
لم يُلقِ خطبًا ولا بيانات، لم يتهم أحدًا، لم يندب حظه، بل اكتفى بأن يقول:
“ الثورة أكبر من رجالها … ومن يحب اليمن لا يتقاتل على بابها .”
في القاهرة عاش منفى الكبار:
لا هزيمة فيه، ولا استجداء، بل عزلةٌ تتّسع للحكمة.
كان يتابع من بعيد أخبار اليمن — انتصاراتها، إخفاقاتها، انقلاباتها — ويبتسم أحيانًا حين يسمع أن خصوم الأمس يتحدثون اليوم عن “قيم الثورة”،
كأنه يقول في نفسه:
“ لقد آمنوا أخيرًا بما قاتلنا لأجله .”
⸻
في زمن الصمت … ظلّ يتحدث بالفعل
عُرف عن السلال في منفاه أنه كان قليل الظهور، لكنه كثير التفكير.
كان يجلس إلى نفسه طويلًا، يكتب ملاحظاتٍ بخطه العربي المتين،
يسجّل فيها ما تعلّمه من التجربة:
أن الحرية لا تُستعار من أحد، وأن العدالة لا تقوم إلا على جيشٍ من الوعي قبل أن تقوم على جيشٍ من البنادق.
لم يكن يحمل حقدًا على أحد، ولا يشتكي من الغدر أو النسيان، بل كان يقول لمن يزوره من الشباب اليمني في القاهرة:
“ لا تنشغلوا بمن أسقط من الثورة … انشغلوا بمن لم يحملها بعد .”
لقد تحوّل الرجل من قائدٍ سياسي إلى رمزٍ أخلاقي وإنساني، يدرك أن المعركة الكبرى ليست في الجبال، بل في عقول الأجيال القادمة.
⸻
العودة … إلى الوطن
ومع تبدّل الظروف السياسية في السبعينيات، سُمح له بالعودة إلى الوطن. عاد إلى صنعاء وقد غيّرت الأيام ملامحها، لكنها لم تغيّر حب الناس له، ولا تقديرهم لصموده ونزاهته.
استقبله اليمنيون كما يُستقبل الأبُ بعد غيابٍ طويل —
لم يعد رئيسًا يحمل أوامر، بل رمزًا يحمل ذاكرة وطن.
في لقاءاته، كان يتحدث بهدوء الحكماء، لا كقائدٍ منتصر ولا كزعيمٍ مغضوب عليه.
كان يقول:
“ الثورة لم تكن ضدي ولا ضد أحد، بل ضد الجهل والظلم.
إن عدنا إليهما، فقد خسرناها جميعًا .”
لقد عاش السنوات الأخيرة من عمره زاهدًا في السلطة، مشغولًا بالمعنى أكثر من الموقع،
يستقبل زواره بابتسامةٍ صافية، ويسألهم عن اليمن أكثر مما يتحدث عنها.
⸻
الرحيل … الأخير
وفي يومٍ من أيام سبتمبر — الشهر الذي أحبّه وغيّر وجهه — رحل المشير عبدالله السلال بهدوءٍ يليق بالجبال التي أنجبته.
لم تكن جنازته حشدًا سياسيًا بقدر ما كانت حجًّا وطنيًا نحو الذاكرة.
بكاه الجنود القدامى، وتذكّره الفلاحون، وقرأ أبناؤه في عيون الناس ما لم تقله الكلمات.
لم يترك قصورًا ولا ثروات، بل ترك ما هو أثمن:
تاريخًا نظيفًا، وشعبًا يعرف أن الحرية يمكن أن تبدأ من جنديٍ واحدٍ يقول لا.
⸻
في ذاكرة … اليمن
بعد رحيله، بقي اسمه يتردّد في الأناشيد والمدارس والمناسبات الوطنية، لكن مكانه الحقيقي لم يكن في الشعارات، بل في ضمير الوطن.
فكل فجرٍ يُشرق في صنعاء هو في الحقيقة ابنٌ لذلك الفجر الأول الذي أنجبه السلال ورفاقه.
وكل جنديٍ يقف اليوم في حدود اليمن إنما يقف على ترابٍ زرعه هو بالإيمان والدم والعزيمة.
قال عنه أحد المؤرخين العرب:
“ لم يكن السلال زعيمًا جاء من فراغ، بل حلقةً في سلسلةٍ عربيةٍ امتدّت من القاهرة إلى صنعاء،
من يوليو إلى سبتمبر، من حلم الوحدة إلى كرامة الحرية .”
وهكذا، ظلّ عبدالله السلال رجلًا سابقًا لعصره —
في رؤيته، في صدقه، في إيمانه بأن الثورة ليست ضد أحد، بل من أجل الجميع.
⸻
خاتمة السلسلة
إن الحديث عن عبدالله السلال ليس مجرد استعادةٍ لحدثٍ في التاريخ،
بل هو استدعاءٌ لقيمةٍ نادرة في زمنٍ كثير الضجيج قليل النقاء.
لقد كان رجلًا يُفكر للأمة كلها، لا لنفسه،
ويعرف أن العظمة لا تُصنع بالصوت العالي، بل بالقلب الذي لا يساوم على الحق.
لقد مرّ في تاريخ اليمن كثيرون حملوا السلاح،
لكن قلّة هم من حملوا فجرًا كاملًا على أكتافهم، ومضوا به من العتمة إلى النور، دون أن يلتفتوا وراءهم ليُحصوا ما نالوا، بل ليطمئنوا فقط أن الوطن بخير.
وهكذا سيبقى عبدالله السلال،
ضميرَ سبتمبر، وصوتَ اليمن حين قال للمرة الأولى: “أنا حراً.
0 Comment