أوراق … من … التاريخ
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
(1)
الملخص :
يُعَدّ نظام المدرجات الزراعية اليمنية نموذجًا فريدًا في تاريخ الحضارة الإنسانية، إذ تمكن الإنسان اليمني منذ آلاف السنين من ترويض الطبيعة الجبلية القاسية وتحويلها إلى منظومة زراعية متكاملة ومستدامة.
يبحث هذا البحث في الأبعاد التاريخية، والهندسية، والبيئية، والاقتصادية، والثقافية والاستراتيجية للمدرجات الزراعية اليمنية، باعتبارها إنجازًا حضاريًا تجاوز حدود الزمان والمكان، وأسهم في تكوين هوية زراعية وثقافية وإنسانية متميزة.
كما يتناول التحديات الراهنة التي تهدد بقاء هذا النظام الفريد، ويقترح رؤىً استراتيجية للحفاظ عليه كإرثٍ عالمي ورافعةٍ للتنمية المستدامة في اليمن والعالم العربي.
⸻
المقدمة:
المدرجات الزراعية في اليمن ليست مجرد حُقولٍ متدرجة على سفوح الجبال، بل هي رمز لعبقرية الإنسان اليمني في التكيف مع الطبيعة وإعادة هندستها وفق حاجاته دون الإضرار بتوازنها البيئي.
لقد أدرك اليمني القديم أن الجبال ليست عائقًا، بل وعاء يمكن أن يُستثمر ويُستزرع. فقام بتسخير أدواته البسيطة، ومهاراته الجماعية، ومعارفه الفلكية والهيدرولوجية، ليحوّل سفوح الجبال الممتدة من شمال إلى الجنوب إلى لوحات خضراء تدهش الأبصار.
تُجسّد هذه المدرجات فكرة الإنسان المبدع الذي يزرع الجمال والإنتاج في آنٍ واحد.
فهي مزيج من الفن والهندسة والاقتصاد والروح، وتُمثّل في نظر العديد من الباحثين “أعجوبةً زراعيةً تفوق في قيمتها الإنشائية والمعرفية كثيرًا من المعجزات المعمارية القديمة ”.
⸻
الفصل الأول:
الخلفية التاريخية لنظام المدرجات اليمنية
تشير الأدلة الأثرية والنقوش السبئية والحميرية إلى أن المدرجات الزراعية ذكرت في اليمن منذ أكثر من 4000 عام، تحديدًا في مناطق سبأ، وحمير، ومعين، وحضرموت.
وقد ارتبطت هذه الأنظمة ارتباطًا وثيقًا بمشاريع الري القديمة، وأشهرها سد مأرب العظيم، الذي شكّل نموذجًا مبكرًا لتكامل الري والمدرجات في منظومة واحدة.
يذكر المؤرخ اليوناني سترابو في القرن الأول قبل الميلاد أن اليمنيين كانوا “يزرعون السماء” في إشارة إلى علو مزارعهم في الجبال.
كما أشار الجغرافي الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب إلى أن كل جبل في اليمن “ جُعل مدرّجًا كالسلالم، يُزرع أعلاه وأسفله ولا يُهدر منه موضعٌ ”.
هذا الإرث التاريخي لم يكن مجرد نشاط زراعي، بل نظامًا حضاريًا متكاملًا يُعبّر عن فلسفة يمنية عميقة في التعامل مع الأرض والماء والحياة.
⸻
الفصل الثاني:
الجغرافيا والبيئة الطبيعية للمدرجات اليمنية
تمتد المدرجات الزراعية عبر السلسلة الجبلية الغربية لليمن، وتغطي مناطق صنعاء، حراز، برع، ريمة، إب، وصاب، يافع، عمران، المحويت، ذمار، وتعز.
وصعدة، حجة واليمن الداخلية، أبهاء، ظهران اليمن، جيزان، غامد، الطايف، تتراوح ارتفاعاتها بين 1500 و3200 متر فوق سطح البحر، وهي مناطق تتميز بمناخ معتدل وهطول أمطار موسمية متوسطة إلى غزيرة.
خصائص …التربة
تتكون التربة في هذه المدرجات من خليطٍ من التربة الطينية الغنية بالمواد العضوية، والتربة الرسوبية المتكونة بفعل الأمطار والسيول، مما يجعلها بيئة خصبة للغاية.
الهندسة …الطبيعية
كل مدرّج يمثل طبقة زراعية أفقية مدعومة بجدار حجري يُشيّد يدويًا.
تتراوح سماكة الجدار بين نصف متر إلى مترين حسب درجة الانحدار، وتُبنى الجدران بطريقة تُتيح تسرب المياه ببطء نحو الطبقات السفلى، مما يمنع انجراف التربة ويحافظ على الرطوبة.
⸻
الفصل الثالث:
البنية الهندسية والهيدرولوجية للمدرجات
يُعد النظام الهندسي للمدرجات اليمنية أحد أعقد وأذكى أنظمة الزراعة الجبلية في العالم، حيث يعتمد على مبادئ دقيقة في ضبط المياه والتربة والجاذبية.
1. الجدران الحجرية
تُبنى من الحجارة المحلية غير الملساء لتضمن تماسكها دون استخدام إسمنت أو مواد لاصقة.
ويُراعى في تصميمها الميل الخفيف نحو الجبل لمنع الانهيار بفعل ضغط المياه.
2. قنوات الري
تُعرف محليًا باسم “العيون” أو “الميازيب”، وتُستخدم لتوزيع المياه من الأعلى إلى الأدنى بطريقة تدريجية متوازنة، مما يمنع الفيضانات أو الجفاف.
3. الحواجز والمصدات
تُقام في قمم الجبال لتوجيه مياه السيول نحو السواقي دون تدمير التربة.
كما تُستخدم الصخور المصفوفة بعناية لتقليل سرعة تدفق المياه.
4. إدارة المياه
يُعتبر الماء في الثقافة اليمنية موردًا مقدسًا، وكان يُدار بنظام جماعي دقيق يُعرف بـ”التحجير”، حيث تُقسم مياه الأمطار وفق أعراف وقوانين عشائرية متوارثة منذ قرون.
⸻
الفصل الرابع:
المحاصيل الزراعية والتنوع الإنتاجي
تتميز المدرجات اليمنية بتنوعٍ مذهل في محاصيلها نتيجة لاختلاف المناخ والارتفاعات.
• البن اليمني: يعدّ من أرقى أنواع البن في العالم (مثل بن حراز ويافع وخولان بن عامر والمخا)، ويُعتبر رمزًا للهوية الاقتصادية والثقافية اليمنية الأصيلة منذو القدم.
• العنب اليمني الفاخر: تزرع أصنافه المتنوعة في صنعاء وحراز، وخولان وكثير مناطق اليمن وكان من المحاصيل المفضلة في العصور الحميرية.
• الحبوب (القمح والشعير والذرة): تشكل الأساس الغذائي الريفي.
• الخضروات والفواكه: كالطماطم، والبصل، والبطاطس، والتفاح والرمان.
• المكسرات واللوز: تنتشر في مناطق مختلفة، وتلعب دورًا اقتصاديًا مختلفًا بحسب الزمان والمكان.
⸻
الفصل الخامس:
البعد الاجتماعي والثقافي للمدرجات
المدرجات الزراعية ليست حقولًا فحسب، بل مؤسسات اجتماعية متكاملة.
فقد ارتبطت بالأنماط القروية والعلاقات التعاونية بين السكان، إذ تُبنى وتُصان عبر ما يُعرف بـ”العمل الجماعي” أو “العونة”، حيث يشارك كل أفراد المجتمع في بناء المدرجات وحصادها.
وتنعكس قيم التعاون والكرم والارتباط بالأرض في الشعر اليمني والأغاني الفلكلورية التي تصف “ المدرجات كحُليٍّ تُزين جبين الوطن ”.
كما تُعدّ هذه المدرجات رمزًا للفخر الوطني، إذ تُستعمل صورها في النقوش والعملات والملصقات الرسمية.
⸻
الفصل السادس:
الأبعاد الاقتصادية والاستراتيجية
تشكّل المدرجات الزراعية العمود الفقري للاقتصاد الريفي اليمني.
فهي تساهم في:
1. تحقيق الأمن الغذائي المحلي.
2. تعزيز صادرات البن والعنب واللوز.
3. الحفاظ على التوازن البيئي والتنوع الحيوي.
4. دعم السياحة البيئية والثقافية، إذ تُعد مناطق مثل “حراز” و“ريمة” مقاصد عالمية لعشاق الجمال الطبيعي والتراث الزراعي.
⸻
الفصل السابع:
التحديات البيئية والتنموية الراهنة
تواجه المدرجات الزراعية اليوم مخاطر حقيقية تهدد وجودها:
• الانجراف والتعرية نتيجة الإهمال وقلة الصيانة.
• ندرة المياه بسبب التغير المناخي وتراجع الأمطار.
• الهجرة الريفية التي تترك الحقول دون رعاية.
• تراجع الدعم المؤسسي والبحثي من الدولة والمنظمات.
٠ التحول نحو زراعة القات كان من أكثر التحولات الزراعية تدميرًا لليمن، إذ استنزف المياه الجوفية، وأرهق التربة، وبدّد المساحات الخضراء في مقابل عائدٍ مؤقتٍ لا يصنع تنمية ولا يحقق أمنًا غذائيًا.
لكن المدهش والمبشّر في الوقت ذاته، أن جيل الشباب اليمني بدأ يستعيد وعيه الزراعي والوطني؛ فأصبح يقلع القات من الجبال والوديان، ويزرع مكانه البن اليمني والأشجار المثمرة، ليعيد للأرض نضارتها، وللوطن رمزه الزراعي الأصيل.
إنها ثورة خضراء صامتة، يقودها وعيٌ جديد وإرادة لا تُقهر،
فما لم تقدر عليه السياسات لعقود،
بدأ يفعله شباب اليمن بمعاول الأمل وبذور الحياة.
هذه التحديات تفرض إعادة التفكير في سياسات التنمية الزراعية، والتركيز على إحياء التراث الزراعي كمصدرٍ استراتيجيٍ للأمن القومي البيئي والغذائي.
⸻
الفصل الثامن:
الرؤى الاستراتيجية المستقبلية
لحماية هذا الإرث الحضاري العظيم، يقترح البحث مجموعة من المسارات الاستراتيجية:
1. إدراج المدرجات الزراعية اليمنية ضمن التراث الزراعي العالمي (GIAHS) التابع للفاو واليونسكو.
2. تأسيس مراكز بحثية وطنية متخصصة في الزراعة الجبلية التقليدية.
3. تشجيع السياحة الزراعية البيئية لخلق مصادر دخل جديدة للسكان المحليين.
4. إعادة تأهيل أنظمة الري التقليدية باستخدام التقنيات الحديثة دون الإضرار بالهوية المعمارية.
5. إدماج المدرجات في المناهج التعليمية كرمز للابتكار الوطني والاستدامة.
6. تعزيز دور المرأة الريفية في الزراعة والحفاظ على البذور المحلية.
⸻
الخلاصة:
إن المدرجات الزراعية اليمنية ليست مجرد إرث من الماضي، بل هي خريطة طريق للمستقبل.
إنها نموذجٌ يجمع بين العلم والفن، بين الوعي البيئي والاقتصادي، بين الجمال والإنتاج، وبين الإنسان وأرضه في أسمى أشكال الانتماء.
لقد طوّع اليمنيون الجبال الشاهقة، وزرعوا فيها الحياة، وأثبتوا أن الحضارة لا تُبنى في السهول فقط، بل تُنحت أيضًا في الصخور.
ومن واجب الإنسانية اليوم أن تحافظ على هذه الأعجوبة، لا بوصفها تراثًا يمنيًا فحسب، بل كنزًا عالميًا نادرًا يُجسّد عبقرية الإنسان في صناعة الحياة من العدم.
0 Comment